اعداد:حساين محمد
شارك الدكتور منير القادري بودشيش، مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، في الليلة الافتراضية الثالثة والثلاثين المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، السبت 26 دجنبر الجاري، بمداخلة تحت عنوان ”التصوف و المشترك الإنساني: قيم التعايش والتسامح و الحوار “.
أشار في بدايتها إلى أن دعوة الإسلام دعوة لإنسانية واحدة موحدة، مذكرا في هذا الصدد بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وأضاف أن الإسلام يؤصل لإنسانية لا فرق فيها بين لون ولون وجنس وجنس وأرض وأرض إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وبين أن سماحة الإسلام وعفوه ويسره كانت من أعظم أسباب انتشاره، وأن أمة الإسلام المتصفة بالتسامح هي أمة رافضة في جوهرها لكل مفاهيم التطرف والكراهية، والعنصرية والاعتداء على الغير بأي شكل من الأشكال، مذكرا بعفوه صلى الله عليه وسلم عن كفار قريش يوم فتح مكة رغم ما ألحقوا به من صنوف و ألوان العذاب، وهو ما يدل على رحمته وحلمه مصداقا لقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”.
ونبه القادري إلى أن عالمنا اليوم في أمس الحاجة إلى هذه الرحمة وإلى التسامح والحوار البناء وإلى نبذ جذور العدمية والتعصب والانغلاق، وكل ما من شأنه أن يغذي نار الكراهية بين الأمم والشعوب وإشعال النزاعات والحروب التي تؤدي إلى التدمير العبثي لكل ما هو جميل في هذا العالم.
وأوضح أن الله أمر عباده بالدعوة إلى سبيله بالحكمة بكل ما تحمله من معاني اللين واللطف ومراعاة السياق وحال المخاطب وظروفه، وبالموعظة الحسنة التي تنفذ إلى أعماق القلوب و تأسرها، و المجادلة بالتي هي أحسن عند الحاجة إلى المجادلة، مبينا أن قاعدة ذلك كله وأساسه ما ورد في القرآن الكريم وفي سنن المرسلين من أن الاختلاف في الرأي ووجهات النظر أمر ضروري وجبلي في طبيعة البشر والذي يرجع الى اختلاف الإدراك و تفاوت العقول وفهم الناس للأمور، واستشهد مصداقا بقول الله عزوجل: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”، وقوله كذلك: ” لِّكُلِّ أُمَّةٍۢ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِى ٱلْأَمْرِ ۚ وَٱدْعُ إلى رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍۢ”.
وتابع أن الإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، وأن تعاليمه دعت إلى التراحم، وجعلت الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطف مدخور، وبر مكنون يوسع لهم ويخفف عنهم ويواسيهم، وذكر أن المطلوب من المسلم ألا يقصر الرحمة على من يعرف من قريب أو صديق، بل جعلها رحمة عامة تسع الجميع فيدخل فيها المؤمن والكافر وحتى الطبيعة والبهائم.
و أشار إلى أن المتأمل لواقع الإنسانية اليوم، يدرك قيمة التعايش والتسامح والحوار خصوصا ما يكتنف العالم من خلافات وصراعات مصدرها الكراهية و نبذ الآخر، فيغيب التواصل و يقل التعارف و ينتج عن ذلك اختلال الأمن و غياب الثقة بين الناس وفتور العلاقات الإنسانية، وأضاف أن من مقاصد التصوف العمل على إرساء نوع من الأمان النفسي و الاجتماعي في النفوس، في إطار من الدبلوماسية الروحية التي تنهل من العرفان الصوفي الإحساني.
وشدد على أن دبلوماسية التسامح من شأنها أن تساعد على تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة وتنقية أجواء الحوار، بعيدا عن أي خطاب إقصائي متشدد، وأن الغاية منها بعث الحياة في مجتمعات تعاني الخوف من الآخر، وتخشى الاقتراب من المخالف، مشيرا إلى أن النصوص القرآنية والتوجيهات النبوية قد حددت منظومة تشريعية في التعامل مع الآخر تؤطرها قيم العدل والرحمة والتسامح والسلام.
وأبرز أن البعد الروحي يتميز برفضه لثقافة الصراع مع الآخر لأن هذا الصراع يؤدي في النهاية إلى أن يصرع القوي الضعيف ويهلكه، فيزيله وينهي ذلك التنوع والتعدد والتمايز، والاختلاف الذي هو رحمة وسنة من سنن الله في مخلوقاته، مشيرا الى ضرورة احترام الحرية الدينية التي تحترم إنسانية الإنسان وعقله الذي ميزه الله به عن باقي المخلوقات، مستدلا بقوله تعالى:” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”، (البقرة،).
وبين أن المغزى من الفتوحات لم يكن نشر الإسلام بالعنف، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظل نصرانيا، ولليهودي أن يظل يهوديا، كما كانوا من قبل ولم يمنعهم أحد أن يؤدوا شعائرهم، وأن الإسلام لم يبيح لأحد أن ينزل أذى أو ضررا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم وبيعهم وصوامعهم وكنائسهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضر ولائم أهل الكتاب، ويغشى مجالسهم ويواسيهم في مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في مجتمع يحكمه قانون واحد، فقد كان يقترض منهم نقودًا ويرهنهم متاعًا، ولم يكن ذلك عجزًا من أصحابه عن إقراضه، فإن بعضهم كان ثريًا، وكلهم يتلهف على أن يقرض رسول الله، بل كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك تعليمًا للأمة، وتثبيتًا عملياً لما يدعو إليه الإسلام من سلام ووئام و تعايش مع الآخر.
وأضاف أنه لا قيام لأخلاق إنسانية في تصور الإسلام إلا على مبدأ قول الله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (سورة الإسراء الآية 15 )، وقوله جل وعلا : (وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى) (سورة النجم الآية 39 ) إلى غير ذلك من الصيغ القرآنية التي تظهر أن البعد العلمي والعملي الإحساني، هو في الحقيقة إخراج كافة الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وأكد على أن القرآن يقر بواقع الاختلاف باعتباره ظاهرة إنسانية طبيعية تقتضي حسن التدبير و لا تحتمل الإكراه و لا التدمير، وأن الاختلاف أشاد به القرآن الكريم باعتباره تجليا من تجليات القدرة الإلهية و مقصدا من مقاصد الوجود الإنساني، وأنه مبدأ أخلاقي يوجب الكف عن العدوان ، و الكف عن استغلال الدين للتحلل من القيم الإنسانية و الأحكام الشرعية و انتهاج نهج العنف و نشر الكراهية و التطرف و الإرهاب، و الكف عن الدفاع عن العنصرية و الاستعمار و التهجير من الأرض.
وشدد على ضرورة إخراج الإنسانية من حالة التلذذ بالصراع وحب السيطرة إلى حالة طلب التعاطف، ومن نزعة التنافر والتباعد إلى طلب التقارب والتعارف، مذكرا بوحدة الأديان في الأهداف العامة والقيم المشتركة والإنسانية، ونبه إلى أن الحديث عن القيم هو حديث عن بيئة متكاملة، وان التربية على قيم التعايش والتسامح والحوار مسؤولية مجتمعية كما جاء في الميثاق التأسيسي لليونسكو.
وأشار الى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصا على تنبيه أصحابه إلى القطع مع «الأخلاق المغلقة»، التي كانت سائدة في الجاهلية، حينما انتصب قائماً عند مرور جنازة رجل من يهود المدينة، فاستغرب أصحابه لهذا الموقف ونبهوه إلى أنها جنازة «يهودي»، واليهود يومئذٍ متحالفون مع مشركي قريش ونقضوا «ميثاق المدينة» ولكنه عليه السلام قال لهم منبهاً «أليست نفساً؟!» أي: أليس إنساناً مكرماً؟
وساق الدكتور منير مثالا آخر للتعايش المشترك، ولحرية المعتقد، وللثقافة المتسامحة القائمة على الاختلاف والتنوع المتمثل في المجتمع الاندلسي، حيث تجسد تعايش سكان الأندلس ممارسة فعلية واقعية فكانوا يتلاقون في مجالس العلم وفي سبل العيش في الأسواق وفي الجوار بالسكن وفي تشابه الأثاث والطبخ، وكانوا يقفون، أحيانا، أمام عدالة واحدة، ويتشاركون في اللغة (واللغات) والأعياد، وأن كبار العلماء من أهل الكتاب برزوا في زمن التعايش.
وأكد أن البداية الحقيقية لترسيخ قيم التسامح وقبول الآخر تبدأ من البيت ومن الأسرة الصغيرة و الجيران والأصدقاء، وتمتد هذه الثقافة إلى المؤسسات التعليمية و التربوية و منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية بمختلف ألوانها الاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والدينية.
ودعا الى إنشاء مؤسسات بحث تعنى بترسيخ قيم المشترك الإنساني والترويج لهذا الموروث الروحي الزاخر الذي ينعم به بلدنا المغرب، وإشاعته إقليميا ودوليا، و إدماج القيم الروحية للتصوف ضمن البرامج التعليمية والتربوية في المؤسسات التعليمية والتثقيفية، وتقوية روح الحوار بين الأديان وإرساء قيم التعايش والسلام في العالم و العمل على تربية جيل منفتح ومتشبع بمبادئ و مقومات هويته الوطنية و الدينية و كذلك مؤمن بقيم المواطنة العالمية المبنية على أساس التعايش والتسامح والتفاعل الحضاري.
وأشار الى أن المغرب يشكل بلد التعايش بين المسلمين و اليهود ، وأن أحد أهم أشكال التواصل التي تربط المغرب بدول العالم، هو المكون الروحي والديني، موضحا أن هذا النمط من التواصل يشكل رافداً للمحبة والأخوة الإنسانية، ولتتجاوز العلاقات أشكال التعاون الاقتصادي وتبادل الخبرات إلى حماية الأرواح والنفوس وزرع بذور الأمن والسلام والتسامح، عبر دبلوماسية روحية يرأسها أمير المؤمنين صاحب جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، مشيرا الى أن كل قراراته تتسم بالحكمة و بعد النظر، هدفها الصالح العام و نهضة الوطن، وأنه يقتدي بجده المصطفى صلى الله عليه وسلم في خلق السلم و الأمن و التعايش مع أهل الكتاب و الوفاء بالعهود، امتثالا لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
ٍ
و أضاف أن المغرب ما فتئ يسخّر كل الإمكانيات لتحقيق التوازن في علاقته على الصعيد الإفريقي، في استمرارية للتفاعل المغربي مع جل الأحداث التي تعرفها القارة الافريقية و محيطه العربي و الإسلامي.
و اختتم كلمته بالتأكيد على الدور الذي يلعبه التصوف السني في اشعاع الدبلوماسية الروحية و الإنسانية للمملكة المغربية وإشاعة قيم الحوار و التعايش، و أن الطريقة القادرية البودشيشية تحت إشراف الدكتور جمال الدين القادري بودشيش، توصي مريديها بالسير على نهج سلوك التصوف السني بالاقتداء بالمنهج المحمدي في تربية النفس على مكارم الأخلاق و حثها على المسارعة للخيرات، و التحلي بالقيم الإنسانية نهجا وعملا حتى يكونوا سفراء لإسلام الوسطية و الاعتدال ولقيم الرحمة و المحبة و السلم و السلام، وأنها تعلن بإيمان وحزم وثبات تجندها الكلي خلف القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله ، دفاعا عن الوطن ووحدته الترابية وخدمة للصالح العام.