اعداد:حساين محمد
تناول الدكتور منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الاسلام اليوم، موضوع “التربية الروحية على اليقين، اعلى منازل الصدق مع الله ومع العباد”، خلال مشاركته في النسخة السادسة والثلاثين من فعاليات “ليالي الوصال”، التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى، بشراكة مع مؤسسة الجمال، وتزامنت هذه الليلة مع الذكرى الرابعة لرحيل شيخ الطريقة القادرية البودشيشية الحاج سيدي حمزة رحمه الله، وبثث اطوارها عبر المنصات الرقمية لمؤسسة الملتقى مساء السبت 16 يناير 2021.
بين القادري أن الصدق هو مطابقة الظاهر للباطن، ومطابقة منطوق اللسان لما حاك في الصدر، موضحا أن الصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه، وأن اليقين من أرقي منازل الصدق مستدلا بقوله تعالى في سورة الاحزاب ” من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه” (الآية 23).
وأضاف أن الصدق بجميع معانيه تجل لمعاني اليقين في الله عز وجل وإخلاص لوجهه الكريم، وأن اليقين من اعظم اعمال القلب واجلها واحبها الى الله تعالى، وأنه صفة من صفات المؤمنين المحسنين وشعبة من شعب الايمان، بل هو الايمان كله، مستشهدا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ” اليقين الايمان كله”.
وقدم مدير مؤسسة الملتقى تعريفا لغويا لليقين، مبينا أنه مشتق من فعل ايقن يوقن ايقانا، فهو موقن اي تحقق من الامر، مضيفا أن لعرب تسمي اليقين ظنا، موردا قوله تعالى” ورأى المجرمون النار فظنوا انهم مواقعوها”، اي فايقنوا انهم مواقعوها، ومن الناحية الاصطلاحية، أوضح القادري أن اليقين هو طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه، موردا قول الجنيد “اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب”، وقولا لذي النون المصري جاء فيه “اليقين هو النظر الى الله في كل شيء والرجوع اليه في كل امر، والاستعانة به في كل حال”.
وقسم الأكاديمي القادري اليقين الى اربعة انواع، وهي اليقين بالله تعالى، واليقين بالآخرة، واليقين في موعود الله ورسوله، واليقين في العمل والجزاء، مبينا أن اليقين بالله تعالى هو التحقق بأسماء الجمال والتعلق بأسماء الجلال، واليقين في الله انه الخالق والرزاق، والوهاب والتواب، منبها الى أن من يؤمن بأن الله هو الغفور ثم يقول ان ذنبه لا يغتفر، ليس له يقين بأن الله يغفر الذنوب جميعا، وانه هو الغفور الرحيم، وأن من يعتمد على قدرته وينسب النجاح والفضل لنفسه، ليس له يقين ان الله هو القادر والقاهر فوق عباده وانه هو الفعال لما يريد، سبحانه وتعالى.
وأوضح معنى اليقين بالآخرة انطلاقا من قوله تعالى ” وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ “، مبينا انه التصديق الكامل، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر والقدر خيره وشره، وفسر اليقين في موعود الله ورسوله، وهو من نصر وتمكين الله لعباده المتقين مستدلا بقوله تعالى ” فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ “، ونعته باليقين الجازم في نصر الله، وتأييده لعباده، المصلحين المتقين.
وتناول الدكتور القادري اليقين في العمل وفي الجزاء انطلاقا من قول الله تعالى :” فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ “، موضحا أن الله تعالى يقبل من اعمالنا ما وافق الكتاب والسنة، وفيه خير للبلاد والعباد و كانت خالصة لوجهه الكريم، موردا حكمة لابن عطاء الله السكندري قال فيها “الاعمال صور قائمة وارواحها وجود سر الإخلاص فيها”، مضيفا أن الاعمال ينبغي ان نبتغي بها وجه الله لا ثناء الناس، وتطرق الى دور التربية الروحية في اصلاح القلب من العجب، والرياء .
وأشار الى ان اليقين ثلاث درجات، مبينا ان العلماء حددوها في ما ورد في قول الله تعالى في سورة التكاثر ،” كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ “، وأوضح أن “علم اليقين هو علم الحقائق، والمعارف والأنوار التي يلهم الله بها قلوب الخاصة بأوليائه، ولهذا صار اهل اليقين من اهل العلم، هم أئمة الناس، وقادتهم في الحق”، مستشهدا بقوله تعالى في سورة السجدة: ” وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ “، وبما ورد في الأثر عن سيدنا علي رضي الله عنه انه قال :”لو كشف لي الحجاب لأرى ربي، ما ازددت يقينا”، مقدما مثالا حول الكعبة قائلا: ” معرفتك بوجود الكعبة ، هذه درجة علم اليقين، اما عين اليقين ، مقام المعاينة والمشاهدة، قال تعالى “ثم لترونها عين اليقين”، وهي الحقائق والعلوم المؤيدة، بالبراهين والادلة القطعية، اذا يسر الله لك الحج او العمرة، رأيت الكعبة، تتحقق عندك عين اليقين”.
وأكد أن حق اليقين، يكون بالتجربة الملموسة وبالتربية الروحية، وهو اعلى مقامات اليقين، مستدلا بقوله تعالى في سورة الواقعة :” وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ( 52) “، وأضاف”انك اذا عرفت حقيقة الكعبة ولما وضعت وسرها وكنهها، تكون قد حزت على حق اليقين” ، كما اورد مقولة لابن القيم في شرح هذه المراتب الثلاثة، جاء فيها: ” من اخبرك ان عنده عسلا وانت لا تشك في صدقه، فهذا علم اليقين، ثم اراك اياه، ازددت يقينا، فهذا عين اليقين، ثم ذقت منه، فهذا هو حق اليقين”، وتابع القادري ان حق اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها.
وأبرز اهمية اليقين في موعود الله موردا قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “ما اخاف على امتي، الا ضعف اليقين، “،( حديث صحيح رواه الطبراني)، كما اورد ما قاله ابن القيم رحمه الله عن منزلة اليقين ” وهو من الايمان وهو بمنزلة الروح من الجسد ، ففيه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون، واليه شمر العاملون، مضيفا ان اليقين علم يكتسب ويتعلم كسائر العلوم بالاستعانة بالتربية الروحية الإحسانية، وبتوفيق من الله تعالى وصحبة الموقنين الصادقين، مستدلا بما رواه خالد بن معدان رضي الله عنه عن سيد الموقنين صلى الله عليه وسلم قال :”تعلموا اليقين كما تتعلموا القرآن، حتى تعرفوه فإني اتعلمه”.
وذكر القادري طرقا لتعلم اليقين، منها الصحبة ، مؤكدا انه لتعلم اليقين لابد من معلم ومرب موقن، موضحا انه ما دام اليقين من المعاني القلبية فهو يتشرب من قلب الى قلب عن طريق الصحبة والتلمذة، والمجالسة والمخاللة، مستنتجا ان صحبة الموقنين تورث اليقين”، موردا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال ‘” قيل يا رسول الله اي جلسائنا خير، قال ” من ذكركم الله رؤيته ، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم في الاخرة عمله”، وما رواه ابو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “المرء على دين خليله، فلينظر احدكم من يخالل”.
وأبرز دور العبادة والدعاء في تعلم اليقين مستشهدا بقوله تعالى في سورة الحجر ” وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ”، وبالحديث الذي اخرجه الترميذي “عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه ” اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ومتعنا بأسماعنا وابصارنا وقوتنا ما احييتنا يا الله “.
وبين القادري طريقا آخر لتعلم اليقين، وهو التفكر مستدلا بقوله تعالى ” وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ” وقوله ايضا ” وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ “، موضحا أن التفكر هو اعمال لعقل المؤمن الذي يربط المخلوقات بالخالق، ويرى عظمة وقدرة الله في الكون كله.
وخلص الى ان اليقين هو خير عطاء في هذه الحياة الدنيا، يعطه الله لمن يحب من عباده، الصالحين، وانه نجاة وقربة لمن تعلمه، واضاف انه مدعاة لاستجابة الدعاء وهو روح اعمال القلوب، وهو نور في قلوب الصادقين، وتابع انه “ذكر للإمام احمد بن حنبل الصدق واليقين والاخلاص فقال “بهذا ارتفع القوم، أورده ابو يعلى في طبقات الحنابلة”، واورد قولة لابي سعيد الخراز رحمه الله ” اليقين هو الذي يحمل السائر الى الله عز وجل” فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير اخلاص رياء، والاخلاص من غير صدق ويقين هباء، قال الله تعالى ‘ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا'”
وفي ختام كلمته في هذه الليلة السادسة والثلاثين من ليالي الوصال، قال القادري انها تذكر بمناسبة عظيمة، وهي “احياء الذكرى الرابعة لانتقال شيخنا سيدي الحاج حمزة قدس الله سره”، مضيفا ان هذه المناسبة “تستدعي منا الاعتراف بفضل وجهود وتضحيات هذا الرجل العظيم خدمة للتصوف والاسلام ، فقد كان رحمه الله، مخلصا، صادقا في موعود الله تعالى مجاهدا من اجل نشر اسس التربية على القيم الاخلاقية الروحية الإحسانية والمساهمة في اشعاع الاسلام ومقاصده القائم على الوسطية والسلم والسلام والاعتدال وإحترام الآخر، بواسطة منهج صوفي احساني ملائم للسياق والزمان والمكان”.
وتابع أن الشيخ الراحل الحاج حمزة القادري “غرس فينا حب البلاد والعباد ومحبة الخير للجميع، ومن ثم فان تخليدنا لهذه الذكرى هو تخليد لذكراه، وتثبيت للعهد مع وارث سره شيخنا المحبوب سيدي الدكتور مولاي جمال الدين حفظه الله، مجددين العزم والنية، على المحبة الصادقة والتوجه القلبي والامتثال لسائر توجيهاته المحمدية السُنية السَنية، والمجاهدة في الاذكار وفعل الخيرات وترك المنكرات، طلبا للاستمداد الروحي ولصفاء القلب، ولتهذيب النفس، والترقي في مدارج السالكين، حتى نكون بحق سفراء لطريقتنا المباركة بأحوالنا وسلوكنا، سفراء لإسلام الرحمة والسلم، والسلام المجتمعي، مجندين وراء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله ، من اجل نهضة وطننا الغالي، ورقيه، والدفاع عن حوزته وامنه ومصالحه”.