د. كمال الدين رحموني
في قول الله تعالى”ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ” فاطر32.
يعنيني في الآية السابقُ بالخيرات، لا من حيثُ تأويلاتُ المفسرين، بل من حيثُ الظاهرُ اللغوي الذي يفيد السبق الزمني، وكما لا يستوي من الصحابة الكرام”مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ”، كذلك لا يستوي من دعا وعلَّم وفقَّهَ في زمن كان أحوج إلى من ينفضُ غبار الجهل، ويمحوَ أدران الضلال ويزيحَ بقايا الشرك. وشاء الله للمدينة والإقليم أن ينهدّ أربعة من الأركان في غضون عشرين عاما الماضية، من الدعاة والعلماء الذين عزَّ في وقتهم من تصدى للبلاغ والنيابة بالدعوة، وتقديم الدين سهلا ميسَّرا، بِفهمٍ سليم، فكان الفقه المالكيُّ زادَ هؤلاء، به يُفتون، وللعمل به يُرشدون، وبالخُلق الحسن يتّصفون، فعُرفوا به في أوساط مَنْ لهم مُجالسون، حتى إنّ العامة من لازال يتذكر هؤلاء الأفذاذ وينتشي بصحبتهم . قبل سنين عددا رُزئت المدينة بفقْد أوَّلهم وكان خطيبا مُفوَّها حاز إلى جانب العلم والفهم روحَ الدُّعابة والمرح، فشاء الله أن يغادر الدنيا مبكرا، خطيب مسجد عمر بن الخطاب ذ محمد الوازي رحمه الله. وقبل سنوات ستٍّ خلَوْن فُجعت المدينة والإقليم بعلَم من أعلام الفقه والغيرة على الدين، الرجل الذي حين تراه يأسرك بتواضعه بقدر ما تمتلكك الرهبةُ وأنت تُقبل على مُجالسته، رهبةٌ ممزوجةٌ بالوقار كذاك الذي يُكنُّه الابن لأبيه، هو العالم الجليل الأستاذ محمد يزيدي رحمه الله. وقبل سنتين ونصف، ترجّل على أَثَرِهما عالمٌ بشوش، وصنوٌ ودود، وخطيب عتيق، ذو الخلق الرفيع والمتفقه االمالكيُّ الرصين أستاذنا المختار الدعاوى.
واليوم، يكتمل عِقد الراحلين الثلاثة برابعهم وأَسَنِّهم، هذا الذي أمدّ الله في عمره حتى قبضه إليه في يوم من أيام الله فاستعاده مقام الميلاد ليرقد بجوار من كان فَرَطَهُ من أهل العلم والتعليم والدعوة والتبليغ، فضيلة الشيخ محمد بوطيب الفسيري الملقب بالمحشّي، وفي اللقب ما فيه من دلالة العلم وشدة الحرص . وإذا كان من فضل الله على هؤلاء الأربعة الراحلين – بتشريفهم للنيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونوا منارات هاديات- فإن من فضل الله عليهم أيضا أن ميزهم برسالة التعليم، وكأن الباري سبحانه أراد لهم أن يعلموا الناس أمور دينهم وهم يتدرجون في الصفوف مع تلاميذهم، يأخذونهم على محمل الجد المشفوع بالتلطُّف، فكم على أيديهم تخرج من أبناء المدينة والإقليم، وكم من هؤلاء من غدا ذا مكانة وشأن ومرتبة دنوية رفيعة، وكم من الناس من تعلم أبجدياتِ الدين وأصولَه على أيديهم، في وقت لم يكن الدينُ مطية للبروز، ولا مشجبا للتمكُّن. وهكذا تعانقت والتأمت أرواح العلماء الأربعة الراحلين ، بعد أن تعانقت أجسادهم، واشرأبت أعناقهم صادحة من فوق المنابر، لعلها تأتي شاهدة على حسن السعي ونبل المقصد.
فإلى الله تعالى الرجاء لهم بالرحمة والمغفرة والجزاء الأوفى ولكل عالم أو فقيه أخلص بعلمه وتأسى برسوله فأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.