RNIoujda
عندما وقف احمد عصمان في أحد يوم آحاد من أيام سنة 2007 بوجدة على منصة الخطابة بمناسبة المؤتمر الجهوي للشرق على غرار باقي الجهات الأخرى تمهيدا للمؤتمر الوطني الرابع بالرباط، تيقن كل الحاضرين أن ابن مدينة وجدة جاء إلى مسقط رأسه ليرسم معالم حزبه في خطبة الوداع، فمن وجدة كانت انطلاقة زعيم الحزب الأزرق وإليها سيكون الوصول بعد مسيرة 29 سنة من الزعامة السياسية بكل تعقيداتها.
لكن قبل هذا المؤتمر بحوالي ست سنوات وبالضبط في فاتح نونبر 2001، اعتلى احمد عصمان منصة الخطابة بمناسبة انعقاد المؤتمر الثالث للتجمع الوطني للأحرار وبحضور رؤساء الأحزاب السياسية ورموز الحركة الوطنية، ليبدو كذلك المحارب الذي حاول أن ينزع الشرعية الوطنية لصالح حزبه. تحدث أحمد عصمان في رحاب مبنى مكتب الصرف، وكأنه في مرافعة قضائية امتزجت السياسة بالحجة التاريخية واختلط الحاضر بالديوان العاطفي، وبذلك كان في زعمنا خطابه هذا، وصفة جديدة لملامسة تاريخ حزب بدت أكثر مشاكله مع السلطة آنذاك.
ذكر السيد أحمد عصمان الحاضرين بمن فيهم عبد الرحمان اليوسفي الذي كان وقتئذ وزيرا أول بما قام به الحزب لصالح الاتحاد الاشتراكي خاصة سنة 1982 حينما توجهت إرادة القصر لحل حزب الاتحاد الاشتراكي بعد أن رفض نتائج الاستفتاء الدستوري: “عندما سئلت عن رأيي أعلنت بتلقائية لا مواربة فيها، أنه لا يجوز في دولة ديمقراطية يحكمها ملك عبقري، وتعيش في ظل ملكية دستورية قمع الأفكار، ومحاربة الرأي الآخر بحل الأحزاب وتصفيتها…”
كما ذكر الحاضرين بالضربات القوية التي تعرض لها حزبه من أوساط سماها سلطوية: “نتيجة لمواقفنا الصارمة، شرعت الأوساط السلطوية في التخطيط للقضاء على التجمع الوطني للأحرار، وظهور ذلك جليا عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات المحلية لسنة 1992 حيث دفع ببعض العناصر في محاولة انشقاق…”
ولعل ما يعرفه هذا الرجل من أسرار سياسية غير عادية في مرحلة غير عادية، أكثر بكثير مما باح به لوسائل الإعلام أو صرح به في اللقاءات والمنتديات، فهذا السياسي الذي سكنه الصمت بكل تجلياته كان يسترشد بالقول “لا يمكننا أن نحرز أي نجاح بالصيحات العالية والتصرفات الطائشة”. وقد صرح ذات مرة لأحد الصحفيين:” على السياسي أن يتكلم في الوقت المناسب إذا كان لديه ما يقوله.” فمن هذا الرجل القادم من الجهة الشرقية، والشاهد على مسارات دقيقة من مغرب سياسي متقلب؟
ولد أحمد عصمان سنة 1931 بوجدة، تابع دراسته الابتدائية بمدرسة سيدي زيان ليلتحق بثانوية عمر بن عبد العزيز، ومع التقدم في الدراسة برزت مواهبه الفكرية والعلمية التي ستفتح له المدرسة المولوية أبوابها لمتابعة دراسته، ولم ينتظر السيد أحمد عصمان أن يتقرب من العائلة الملكية ويتصاهر مع القصر ليرتدي حذاء السياسة، لأن النشاط السياسي يرجع عندما كان يتابع دراسته بوجدة حيث انخرط في أنشطة حزب الاستقلال، وتعرف على رموز من الحركة الوطنية، كما بين ذلك في كلمته التي ألقاها سنة 1999 في ذكرى 16 غشت بوجدة، وهذا ما يؤكد مقولة أن المرء لا يكون سياسيا إذا لم يعانق السياسة في سن المراهقة.
من المؤكد أن المرحلة التي ستفتح لأحمد عصمان خزائن السياسة بكل دهاليزها ومتاهاتها، هي المرحلة التي سيعمل فيها مديرا للديوان الملكي من سنة 1971 إلى سنة 1972 حيث سيتعرف على رجال السياسة من العيار الثقيل، وسيربط معهم علاقات جد وطيدة كعلال الفاسي وعبد الله إبراهيم ورضا كديرة وأبا حنيني وغيرهم كثر، ولم يكن التعرف على مثل هذه الشخصيات الحسنة الوحيدة على أحمد عصمان في هذه المرحلة، بل سمحت له بتحضير مشروع دستور 1972 بمعية عبد الرحيم بوعبيد، وعبد الله إبراهيم وعلال الفاسي، هذا المشروع الذي رفضته الكتلة الوطنية،كما أهلته هذه المرحلة لرئاسة الحكومة وقيادته للمسيرة الخضراء وأعدته لمرحلة حاسمة من تاريخ المغرب…
عندما يتحدث السياسي المغربي عن المسيرة الخضراء يرتبط اسم التجمع الوطني للأحرار بهذه المرحلة، فقد أبرزت دراسة سياسية أن جل المشاركين في المسيرة غير منخرطين ولا مؤطرين في أحزاب سياسية، ولقد كان لفشل الحكم في استقطاب الحركة الوطنية إلى الحكومة عقب رفض الكتلة الوطنية لدستور 1972 وللمحاولتين الانقلابيتين ولأحداث 3 مارس 1973 أثرها الكبير في أن يفكر النظام في إعادة التوازن للمشهد السياسي بالمغرب عن طريق استثمار النتائج السياسية الداخلية للمسيرة الخضراء في الخريطة السياسية للبلاد، ولأن السيد أحمد عصمان كان وزيرا أولا ويربطه بالقصر نسب المصاهرة، فقد كان الشخص الأنسب ليلعب الدور الريادي في هذا المشروع، ومن ثم سيعمل على تأسيس حزب التجمع الوطني للأحرار انطلاقا من 140 نائبا حرا ولجوا باب البرلمان كلا منتمين
وما أن حل أكتوبر 1978 حتى كانت وزارة الداخلية قد سلمت شهادة ميلاد التجمع الوطني للأحرار الذي ارتبط ارتباطا عضويا باسم رئيسه، لكن أولئك الذين كانوا يعتقدون أن حزبا يرأسه أحمد عصمان بكل الذي شاع عنه من تربية دار المخزن لا يمكنه أن يشاغب، سرعان ما سيستفيقون على محاولة الرجل لكسب استقلالية عبر جرأة قد تراها السلطة نشازا على تربية دار المخزن. فهذا الرجل سيدافع عن الراحل علي يعتة رئيس حزب التقدم والاشتراكية المعارض في مرحلة حاسمة، وسيعارض مشروع رفع الحصانة البرلمانية عن محمد اليازغي النائب البرلماني عن حزب الاتحاد الاشتراكي، وسيوجه مذكرة إلى جلالة المغفور له الحسن الثاني عند إثارة ملف الاستفتاء في قضية الصحراء، ملتمسا منه ضرورة التحفظ في هذا الشأن، كما وجه له مذكرة أخرى بعد أحداث الدار البيضاء سنة 1981 مؤكدا أن هذه الأحداث لها أسبابها من تفشي الرشوة واختلال موازين العدالة وسوء استعمال بعض أساليب السلطة… لذلك سيعرف التجمع الوطني للأحرار عدة ضربات، بدء بانشقاق 1982 وتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، مرورا بانشقاق 1984 وتأسيس حزب الاتحاد الدستوري ووصولا إلى محاولات الطيب بن الشيخ والحافظي العلوي..ولما بدأ السيد عصمان يمد جسوره مع أحزاب المعارضة داخل قبة البرلمان منذ 1984، والتي بلغت أوجها في 1989 عندما رفع ملتمس الرقابة لإسقاط الحكومة وكان يومها أحمد عصمان رئيسا للبرلمان، أحس الملك الراحل الحسن الثاتي كما لو أن التجمع الوطني للأحرار سيصوت مع المعارضة لإسقاط الحكومة ونظرا لحرارة النقاش طالب الملك بإيقافه، غير أن عصمان اعتبر ذلك بمثابة “إغلاق للبرلمان وإجهاض للتجربة ” وجاهد من أجل حل وسط.
فهذا هو مؤسس حزب التجمع الوطني للأحرار ابن مدينة وجدة وهذه بعض المحطات من حياته السياسية الغنية.