الحفر الأركيولوجي للنخب الدينية بالجهة الشرقية

9 ديسمبر 2016آخر تحديث :
الحفر الأركيولوجي للنخب الدينية بالجهة الشرقية

p1260820
%d9%85%d9%84%d8%a7%d9%85%d8%ad-%d9%85%d9%86-%d8%aa%d9%85%d9%8a%d8%b2-%d9%86%d8%ae%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b1%d9%82%d9%8a%d8%a9
انشغلت جل التحليلات التي صاحبت تداول الشأن الديني بالمغرب، خلال بداية القرن الواحد والعشرين، بتحليل استرتيجية الضبط الديني، وأسهبت دراسات عديدة في الوقوف عند محطة 16 ماي 2003 كمنعطف خطير، سيعرف معه المغرب تبني سياسة واضحة في هيكلة الشأن الديني بمزيد من الضبط وكثير من التعديل. وقد صاحب ذلك نشر الكثير من الكتابات التحليلية التي حاولت التقاط تفسيرات للمستجدات وربطها بالسابق من القرارات، وما سلف من إغماض العيون على بعض الانزلاقات ، إلا أن المقاربة التي سنحاول من خلالها ملامسة الشأن الديني، تسعى إلى البحث عن تميز النخب الدينية بالجهة الشرقية في إطار السياسة العامة للشأن الديني للمغرب.
إن المشهد الحالي الخاص بتدبير الشأن الديني بالمغرب يمكن أي دارس من الصدع بحقائق ونتائج كشفت عنها استراتيجية الدولة في احتواء مسألة احتكار الدين وشرعنة الحديث باسمه، ولعل أهم حقيقة يفضي إليها الواضح من المعطيات أن فتح هذا الورش الإستراتيجي يجسد أحد مقومات وأسس الإسلام المغربي المعتمد على العقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني، فهو بذلك وجه من أوجه التنافس بين الإسلام الرسمي ونخبه التي تشتغل في إطار الفضاء الديني المؤسساتي الرسمي وبين النخب الدينية الأخرى المحسوبة على حقل ديني مضاد يبني تعارضه على تعارض المرجعية الإيديولوجية واختلاف في الإستراتيجية. أمام هذا التصنيف الاختزالي للنخب الدينية بالمغرب، أين يمكن وضع النخب الدينية المنحدرة من الجهة الشرقية؟ ألا يمكن إيجاد تصنيفات أخرى للنخب الدينية خارج التصنيفين السابقين؟ وأي ثقافة علمية ودينية تمتاز بها النخب الدينية للجهة الشرقية؟
جذور تاريخية
بالرغم من عدم وجود مدارس علمية مشهورة بالجهة الشرقية عرفت بإشعاعها أو مزاولة فعل إنتاج العلماء كما كانت مدينة فاس أو تلمسان وغيرهما، فإن مدينة فكيك التي اعتبرت مركزا ثقافيا مهما، كان يدور في فلكه عدد من المراكز الثقافية الجنوبية الممتدة من الصحراء إلى بلاد السودان قد اشتهرت خلال القرن العاشر بآل عبد الجبار الودغيريين الذين توارثوا العلم والصلاح جيلا بعد جيل، وذاع صيتهم خارج حدود المناطق الشرقية فعم المغرب كله وتفرع عن فكيك وقتئذ مركز ثقافي على ضفاف درعة جنوب زاكورة، أين انتقل عالم فكيكى وهو محمد بن أحمد أدفال، وعاش فيها مدرسا ثم خلفه أولاده وأحفاده، فأشهرهم أحمد بن محمد أدفال العالم الصوفي المؤلف صاحب المكتبة الشهيرة. ثم إن القاضي ابراهيم بن عبد الجبار هاجر إلى السودان، وأقام به مدرسا ومرشدا إلى أن مات هناك.
ولئن كانت جهات مختلفة من جنوب المغرب ومن بلاد السودان قد استفادت من الخبرات العلمية والفقهية التي كان يزخر بها المركز العلمي لفكيك فإن مدينة وجدة لم تشذ عن هذه الصلة الثقافية بمدينة فكيك، ولازالت أسماء علمية بارزة منحدرة من فكيك بصمت الحياة العلمية لمدينة وجدة إرشادا ووعظا وتدريسا.
كما عرفت مدينة وجدة هجرة العديد من الأعلام والفقهاء خاصة من الغرب الجزائري حتى سماهم الأستاذ عبد الحميد اسماعيلي ” علماء المهجر بمدينة وجدة في القرن 19 ” ، وعد منهم الحبيب بن المصطفى، وأبناءه محمد وأحمد والحاج العربي جد المستشار الملكي السابق علال سي ناصر، وذكر من الطبقة الثانية العلامة جلول بن رورو المستغانمي والفقيه أحمد بن عيسى والفقيه عبد الله المعسكري والفقيه البشير المشرفي .
وما من شك في أن الكثير من أبناء مدينة وجدة الذين أتموا دراستهم بمعهد وجدة في حفظ القرآن وبعض المتون في الفقه واللغة، قد قصدوا مدينة فاس أوتلمسان لإتمام دراستهم الفقهية، ولعل القاضي محمد الهاشمي الميري الوجدي أحد هؤلاء، وتشير بعض الدراسات التاريخية إلى أنه ازداد في أوائل القرن 19، وتربى على يد مشاهير الفقهاء الوجديين ثم انتقل مع ثلة من أقرانه وأصدقائه إلى مدينة فاس لينتظم في سلك الدروس المختلفة بجامعة القرويين. ومن شبه المؤكد أنه حضر في دروس بعض الفقهاء التلمسانيين هنا وهناك، نظرا لإشعاع الحضارة الإسلامية الذي كان يطبع العلاقات الراسخة بين فاس وتلمسان، وهو الإشعاع الذي كان ينعكس على حلقات العلم والمعرفة بمساجد وزوايا وجدة.
تضيء هذه الفقرات من التاريخ العلمي والديني لمدينة وجدة جانبا من الحياة العلمية بحاضرة الجهة الشرقية، كما تعطي صورة واضحة على مستوى تدين مواطنيها، وربما هي الإشارة التي حاول النقيب “لوي فوانو” توضحيها في كتابه “وجدة والعمالة” الصادر في سنة 1912، عندما أنهى الفصل المرتبط بالحياة الدينية بالتعليق التالي:” إن فئة السكان المنضوية في حظيرة الزوايا والطرق الصوفية جد متطرفة في مواقفها وسلوكها، أما باقي الناس فيبدون معتدلين في تصرفاتهم، بالرغم من كونهم لا يتأخرون عن أداء الصلاة بالمسجد”.
ولعل التطرف الذي حاول” فوانو” إثباته في حق الوجديين لا يمكن تفسيره إلا بغيرتهم على دينهم ومدينتهم ومصالحهم ومؤسساتهم السياسية والاجتماعية، وهو ما كان يخيف المراقبين الأجانب، ويعتبرونه نوعا من التزمت والتعصب ومظهرا من مظاهر العداء والنفور من كل ما كان يمثل الحضارة الأوربية الغازية.
فهل يمكن الجزم بأن هذا التطرف الذي تحدث عنه “فوانو” لازال لصيقا بأهل وجدة ؟ وهل يمكن إلصاقه أيضا بالنخب الدينية المنتمية للجهة؟ وما هي مميزاتهم الخاصة في إطار العام الذي يؤسس للنخب الدينية بالمغرب؟
نخب المؤسسات الرسمية
في إطار التصنيف الذي تبناه عبد الرحيم العطري في كتابه “صناعة النخبة بالمغرب” أثناء حديثه عن النخب الدينية، أدرج أعضاء المجالس العلمية ونظارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وكبار المسؤولين بها، ضمن نخبة الإسلام الرسمي باعتبارها مسؤولة عن التدبير الجديد للشأن الديني ، وهو تصنيف يرتكز على التعميم المطلق بالرغم من وجود بعض الحالات الاستثنائية من العلماء المشتغلين في الإطار الرسمي والمتحملين لمسؤوليات كبرى ضمن هياكل مؤسسات تدبير الشأن الديني بالمغرب، والأستاذ مصطفى بنحمزة نخاله على رأس قائمة هذه الإستثناءات، ففي كثير من مناسبات يبدو رئيس المجلس العلمي المحلي ناقدا متبصرا، لسياسات منتسبة للدولة نفسها أو لجهات يخال أنها لا تنفصل عن الدولة. فمجرد التصريح على شاشة القناة الثانية بتحريم الاشتغال في أماكن القمار واليانصيب، ومعارضة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في شأن اجتهاداته بخصوص السماح لغير حفاظ القرآن الكريم من ولوج مدارس التعليم العتيق، وانتقاد أفكار لمشاهير العلمانيين ومناقشتها بمنهج علمي رصين، يوضح صورة هذا العالم المنحدر من الجهة الشرقية، وربما لهذه الخصيصة صنفه منتصر حمادة أثناء مقاربته للنخب الدينية في المجال التداولي المغربي ضمن التيار الثالث الذي يتموقع بين التيار الأول الذي يضم نخب الحقل الديني الرسمي وبين التيار الثاني الذي تنتمي إليه نخب الحقل الديني المضاد .
ويروق لمنتصر حمادة وبعض من يتناول شخصية الأستاذ بنحمزة بالمقاربة والدرس، توصيفه بالانتماء إلى الجسم الحركي تارة أو المشهد الحزبي تارة أخرى، وقد تعزز هذا الرأي بفعل ما أومأنا إليه آنفا بالحضور المتميز أو الاستثنائي للأستاذ بنحمزة في المشهد الديني المغربي، ويفقد هذا الرأي وجاهته العلمية لجنوحه نحو التشهير والإدعاء أكثر من اعتماده على الدلائل والقرائن، ويستشف هكذا انحراف عن المنهجية العلمية ما قاله منتصر حمادة:”… ويمكن أن ندرج أيضا، مصطفى بنحمزة والذي إن كان يشغل منصب رئيس المجلس العلمي بوجدة، إلا أنه محسوب إيديولوجيا على ماضيه الإسلامي الحركي، أي” حركة التوحيد والإصلاح”. بحيث لا يخفى لدى المتتبعين تأييده لمرشحي حزب “العدالة والتنمية” في الاستحقاقات الانتخابية بنفس المدينة.”
وجزم كهذا لا ينفصل عن اتهامات مماثلة سابقة حملت إلصاق صفة السلفية والإخوانية لشخص رئيس المجلس العلمي المحلي بعد محطة 16 ماي 2003، حين كان نجم الأستاذ بنحمزة يسطع من داخل اللجنة الملكية لمدونة الأسرة، أين راكم بعض العداء من جهات علمانية داخل نفس اللجنة. ومعلوم أن هذه المحطة كانت تؤرخ للأحداث الإرهابية بالدار البيضاء التي تطلبت مراجعة آليات اشتغال الضبط المخزني لكافة التفاصيل المجتمعية، وكأن مبتغى الجهات التي كانت تروج لمثل هذه الاتهامات يصب في منحى تضييق الخناق على الأستاذ بنحمزة لكبح آرائه والتي غالبا ما تكون تحمل رأيا معارضا ومبنيا على دلائل وأقيسة لا يشكك فيها إلا جاحد .
وقد تعرضت اتهامات من هذا القبيل للتشكيك والتقليل من أهميتها في مراحل متوالية، فآراء الأستاذ لم تتغير، وبقيت مستمرة تهز مرة بعد الأخرى أركان المعارضين، كما أن التيه في تحديد اللون السياسي الذي يحظى بتأييد بنحمزة من الأحرار إلى العدالة و التنمية، والزهد الذي أبان عنه في حقيبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كفيل بدحض مثل هذه الادعاءات، واستدراكا فإن الأستاذ بنحمزة يبقى أحد النخب الدينية، التي وإن صنف ضمن علماء الحقل الرسمي يظل التميز لصيقا به والاستثناء ضمن كوكبة رؤساء المجالس العلمية أحد أهم القناعات المستنتجة بدء وختما .
الحديث عن المجالس العلمية بالجهة الشرقية يجرنا للانعطاف باتجاه المجلس العلمي الذي ترأسه الأستاذ محمد أفزاز الذي شغل أيضا رئيس محكمة الاستئناف بوجدة ، وكانت المحطة من أرقى المحطات التي مر منها المجلس نظرا للأسماء الوازنة التي كانت تؤثث هذا المجلس من قبيل الأستاذ محمد بلوالي أستاذ مادة القراءات وعلوم القرآن بجامعة محمد الأول الذي عين سنة 2009 رئيسا للمجلس العلمي لتاوريرت، والمرحوم الأستاذ أحمد حدادي أستاذ الآداب بنفس الكلية ، المعين هو الآخر رئيسا للمجلس العلمي لفجيج، وزميلهما الأستاذ عبد الرحمان حوطش.
وتألق هذا المجلس نراه عائدا إلى جوهر الممارسة العلمية في رحاب جامعة محمد الأول التي مع تأسيسها جمعت ثلة من خريجي دار الحديث الحسنية و الأساتذة الباحثين في الشؤون الإسلامية و اللغوية خاصة المنحدرين من الجهة الشرقية، لكننا بالبحث في منحنيات التغيير التي ترسم معالم أعضاء المجالس العلمية المحلية في هذه الفترة، نعثر على أعضاء أو مشتغلين في إطار هذه المؤسسة وكل إليهم أمر تقزيم أدوار المحسوبين على الحقل الديني المضاد، وهي محاولة محفوفة بمحاذير منهجية و علمية كثيرة، ليس اقلها قلة الزاد العلمي، وما يمكن أن تقود إليه من ضعف الشعبية لمثل هؤلاء العلماء.
للوهلة الأولى يبدو أن المستوى العلمي لأعضاء المجلس العلمي لوجدة، يرتبط إلى درجة كبيرة بتوسيع شبكة المجالس العلمية، حيث شملت أقاليم تاوريرت، بركان، جرادة، فكيك، في حين كان لإقليم الناظور مجلسه العلمي منذ النسخة الأولى لتأسيس هذه المجالس العلمية، فتوسيع شبكة المجالس، سيكون كفيلا بتشتت علماء محسوبين على المجلس العلمي المحلي لوجدة على هذه الأقاليم الجديدة، و الملاحظ أن هذه المرحلة حملت بالأقاليم الجديدة إلى عضوية مجالسها العلمية نخبا متواضعين في زادهم العلمي، بعضهم لم يحصل على شهادة الباكالوريا إلا مؤخرا، و كثير منهم لايتجاوز مستواهم العلمي الإجازة في الأدب العربي، غير أن البوح بكون الخلايا الأولى لتأسيس هذه المجالس، جاءت من المجلس العلمي المحلي لوجدة عندما كان يعمد إلى وضع خلايا محلية لتدبير أنشطة محلية، يعطي صورة واضحة لهذه النخب الجديدة و الأدوار التي أريد لها أن تلعبها.
من جهة أخرى، فان انحدار بعض المتبنين للفكر الجهادي بالجهة الشرقية بعد عمليات تفكيك شبكات موصوفة بالإرهابية، من إقليم الناظور، قد يدفع إلى مساءلة دور العلماء في الإقليم، بل إلى النبش في أدوار علماء المؤسسات الرسمية و نجاحهم في تكريس إسلام معتدل يحفظ للمغاربة هويتهم وتسامحهم و إرثهم الثقافي والحضاري، لا يمكن تحقيق ذلك إلا بكسب ثقة المغاربة الذين يطمئنون إلى العلماء الذين يساءلون الشأن العام، و يوجهون النقد و اللوم لرموز الدولة متى كان الأمر ضروريا دون غلو في النقد أو تنطع في التفسيق و التكفير .
ولعل مثل هذه الميزة هي التي حفظت لرئاسة المجلس العلمي المحلي لوجدة ذلك الحضور المتميز، وذلك النجاح في إبعاد مدينة وجدة والمراكز القريبة منها عن شبح الفكر الجهادي و التكفيري.
إن الحقل الديني بالجهة الشرقية، وإن كان يندرج ضمن الحقل الديني الوطني الذي يعتبر مملوء بالإشارات و الدلالات و الموصوف بأهم قناة لتصريف السلطة، فانه يمتاز بخصوصيات قل وجودها مجتمعة في جهة أخرى، فبعد الحضور الوازن للأستاذ مصطفى بنحمزة كعالم انضوى في هياكل الإسلام الرسمي، و لم يفرط في مهمته النقدية وفضل خيار الاستقلالية عن كل إطار ديماغوجي استقطابي، يأتي اسم الداعية عبد الله النهاري المبعد عن كراسي الوعظ و منابر الخطب، بعدما تألق اسمه كداعية مغربي كبير، ومع إدراكنا أن الحديث عن الداعية عبد الله نهاري يجرنا إلى الجزم بتواضع تكوينه الفقهي والأصولي و الشرعي ، فإن مهمة مساءلة الشأن العام و توجيه النقد و اللوم للسلطة ورموز الدولة، تكون أكثر مدعاة لشهرة المشتغلين بالشأن الديني، وهو ما يعطيهم رأسمالا رمزيا بفعل تراكم التوظيف الإيديولوجي لبعض الوقائع والنوازل، و لن نكون مضطرين للتدليل على ذلك بالمواضيع التي قارب من خلالها قضايا بعض الوزراء و المسؤولين و مواضيع ذات صلة بالرد على ادعاءات العلمانيين وطروحاتهم.
وإذا تسنى لنا متابعة الخيوط المتحكمة في توقيف عبد الله نهاري، أمكن التوقف عند مشروع هيكلة الشأن الديني بالمغرب في شقه المتعلق بتكوين الأئمة وإطلاق خطة ميثاق العلماء، تأسيسا على خطاب ملكي القي بتطوان في 27 شتنبر 2008، خلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى، دعا من خلاله إلى تفعيل خطة “ميثاق العلماء ” وفق برنامج محدد يشرف عليه المجلس العلمي الأعلى، ويقوم على التعبئة الجماعية، والخطاب الديني المستنير. ولا يفوتنا هنا التذكير أن احمد التوفيق وزير الأوقاف و الشؤون الإسلامية قد أصدر تقريرا حول إعادة هيكلة الشأن الديني، وأشار في إحدى المناسبات إلى أن التطرق إلى ميثاق العلماء في الخطاب الملكي بتطوان يفسر بالأهمية التي يتمتع بها العلماء، و الدور المنوط بهم في حفظ العهد القائم بين جلالته وبين الأمة، وأضاف أن هذا الميثاق عبارة عن عقد “يلزم العلماء بمساعدة الأمة في حماية دنها و ملتها، وان لا يتركوا مجالا للتشويش على العقيدة”، بيد أن أمر توقيف عبد الله نهاري تحكمت فيه محددات أخرى بعيدة عن مجالات التشويش على العقيدة أو الإخلاء بشرط مساعدة الأمة على حماية دينها و ملتها، إذ أشارت بعض التحليلات إلى ضلوع جهات نافذة من المندوبية الجهوية للأوقاف بإيعاز من إحدى الزوايا المشهورة بالجهة الشرقية، و لايفوتنا هنا التذكير بمواقف الداعية عبد الله نهاري من الزوايا والطقوسية التي غالبا ما يعتبرها بدعا ينبغي أن تتجنب، وهذا ما يؤكد أن الحقل الديني تلتهب فيه مجموعة من الرموز والصراعات التي تتسربل بمسوح عديدة تهفو إلى شرعنة الوجود، وتأكيد الحضور في صلب كافة الأنساق المجتمعية، كما عبر عن ذالك عبد الرحيم العطري .
النخب الدينية التقليدية
عندما يجري الحديث عن النخب الدينية بالجهة الشرقية، لابد وأن يتم الوقوف عند الزاوية البودشيشية وشيخها حمزة الذي تصنفه بعض الدراسات كأحد أبرز النخب الدينية في مجالنا التداولي، فهو يشتغل في إطار مؤسسة الزاوية التي استطاع أن يمنحها هوية تنظيمية جديدة تستجيب لمتغيرات العصر، مع الحفاظ على ثوابتها التربوية والأخلاقية والروحية، وحاضرة بقوة بثقل رأسمالها الرمزي الذي يجعل منها نخبة دينية وازنة على الأقل لدى الأتباع و المتتبعين، ويأتي بروز هذه الزاوية بشكلها المثير في إطار الرغبة في إنتاج رموز دينية أخرى بغاية تمييع الفعل الديني، وإغراقه بثلة من المتنافسين ضدا في الحركة الإسلامية المنافسة في حقل المشروعية الدينية.
وزاد من صعود نجم الطريقة البودشيشية خلال السنين الأخيرة، اعتناق نخب أكاديمية للإسلام عبر بوابة التصوف، ولعل ما يشهده مقر هذه الزاوية من حركة أثناء حضور بعض الشخصيات السياسية إلى وجدة بسبب الزيارة المرتقبة لتلك الشخصية لمقرها وشيخها يكبر بالوضوح التام تألق هذه الزاوية، وهذا ما يؤشر على أن السياسي المغربي لا يتردد في استعمال العادات الاجتماعية التقليدية من أجل المحافظة على أتباعه وتوسيع صفوفهم .
وتشير بعض المصادر إلى أن استقواء الزاوية البودشيشية جاء بعد وصول احمد التوفيق إلى وزارة الأوقاف، إذ أن انتماء الوزير للطريقة القادرية البودشيشية يعزز بالضرورة تعاطفا و تكريسا لنموذج الطريقة في التربية والأخلاق.
في ضوء هذا الحضور الصوفي في المجال التداولي الديني المغربي، لابد من الوقوف عند القراءات النقدية المؤدلجة بخصوص توظيف التصوف في سياسة تدبير الشأن الديني، ولعل الانتقادات الصادرة عن متصوفة ومريدين للطرقية، تكون أكثر وقعا من غيرها، وفي هذا المضمار يندرج مقال الباحث محمد بنيعيش تحت عنوان” الخطاب الرسمي بالمغرب و ضرورة الفصل بين الصوفية و المتمصوفة” أين أورد قوله : ” رأينا في بعض برامج التلفزة المغربية للقناة الأولى صورا مخجلة من هذا القبيل كمثال المرأة الأوروبية المسنة التي ادعت أنها وجدت نفسها في طقوس وحركات مبنية على الرقص المفتعل، والمنظم مع اختلاط بالرجال وإيقاعات موسيقية في بعض التجمعات المسماة غلطا بالزاوية أو التكايا، والتي تنسب خطأ إلى التصوف، لكنها أبعد منه بعد المشرقين و المغربين.”
تقاطعا مع ما ذهب إليه بنيعيش، نستحضر تصريحات اللاعب الفرنسي من الأصول التونسية حاتم بن عرفة، الذي كشف عن كبريائه الذي أنقذه من دخول عالم التصوف، بعد وصوله إلى وجدة سنة 2007 بغية اتباع الطريقة البودشيشية كما نصحه بذالك وكيل أعماله آنذاك بعدما أحس بفراغ روحي، وعن سبب تراجعه أو “نجاته” كما قال، أوضح بن عرفة أنه “حدث ذلك بقاعة للصلاة، حيث طلب مني تقبيل قدمي الشيخ، ويعد هذا الأمر واجبا بالنسبة لأتباع الطريقة، لكن كبريائي أنقذني، فلا يمكنني تقبل ذلك…” .
أحد الوجوه المحسوبة على النخب الدينية المنحدرة من الجهة الشرقية، والذي أصبح يشتغل في إطار الفضاء الديني المؤسساتي الرسمي لمغاربة العالم، هو محمد بشاري أمين عام المجلس الأوروبي الإسلامي، ورئيس الفيدرالية العالمية لمسلمي فرنسا، وتعتبر هذه الفيدرالية ممثل الإسلام المغربي في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية مقابل مسجد باريز الذي يمثل الإسلام الجزائري، واتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا الذي يمثل ما قد يصطلح عليه بالفرع الفرنسي للتنظيم الدولى ” لجماعة الإخوان المسلمين “.
ويمكن تلمس الدور المنوط بمحمد بشاري إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تحدي الليبرالية الدينية بالديار الأوروبية، حيث تنشط جميع الفرق و الملل و النحل من شيعية و وهابية و سلفية، فضلا عن التحدي التنصيري الذي يتعرض له أبناء المغاربة المقيمين بالخارج، وهذه التحديات يصطدم بها مشروع طبائع التدين المغربي ” المرتكز على كونه اشعري العقيدة، مالكي المذهب وصوفي السلوك، تأسيسا على مقوله ابن عاشر في نظمه الشهير ” المرشد المعين ” .
وتبقى حالة نور الدين الزاوش فريدة للغاية، ونتحدث عن أستاذ السلك التأهيلي لمادة الإعلاميات و كاتب إقليمي سابق لحزب العدالة و التنمية، وكاتب إقليمي لحزب النهضة والفضيلة الذي استطاع أن يؤلف كتاب ” الجالية اليسارية المقيمة بحز ب العدالة و التنمية ” وقد تزامن صدور هذا الكتاب مع صدور كتاب ” الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب” للمرحوم فريد الأنصاري.
اعتبر كتاب نور الدين الزاوش انتفاضة ضد ما اسماه الكاتب ” سياسة القطيع ” المنتصبة بحزب المصباح، خصوصا تلك المنسوبة لعبد العزيز أفتاتي. و لتوضيح جدية و ثقل النقد الصادر عن الزاوش، كان الصمت شعار قيادة حزب المصباح محليا و جهويا ووطنيا.
ولئن كان الزاوش انتقد بشدة أداء أعضاء الحزب وهيمنة حركة التوحيد والإصلاح عليه، فإنه يختلف عن منهج الدكتور الأنصاري رحمه الله من حيث الثقل العلمي و التأصيلي و نهج باب النقد الذاتي الرصين.
الصورة التي حاولنا رسم ملامحها عبر التطرق لرموز أساسية في المجال الديني الوطني لا تعني أبدا إطلاق صفة جوهرانية على الجهة الشرقية، أي أنها ذات تميز يؤشر على مناقضة ما هو عام في إطار تدبير الشأن الديني بالمغرب، وإنما أردنا بذلك قراءتها ضمن خصوصيات الجهة الشرقية، أي في ضوء سوسيولوجيا النخب الدينية بالمغرب.
مقتطف من مؤلف: ملامح من تميز نخب الجهة الشرقية لصحافي المميز الأستاذ عبد المنعم سبعي

الاخبار العاجلة