يذهب بعض الفلاسفة ومن بينهم الفيلسوف نيتشه، أن المفردات الأكثر تداولا و استعمالا هي الأقل دقة و وضوحا، و أكاد اجزم أن كلمة النخبة تندرج ضمن هذه الرؤيا، فلكثرة استخدامها في صنوف مختلفة من المعرفة، أضحت إحدى الكلمات التي بات أمر تحديد مفهومها ومدلولها قضية ملحة، تجنبا لاستعمالها في غير أغراضها . فميزة النخبة كما يوحي بذالك مدلولها اللغوي، تلامس كل ما هو مختار و منتقى، و تتفرد بصفة الأجود و الأحسن، تفضيلا لها عمن سواها من طبقات المجتمع.
و لئن كانت السجالات الفكرية التي قاربت مصطلح ” النخبة ” من الزاوية السياسية قد حصرتها في أحد طرفي الثنائية (نخبة-جمهور) أو (خاصة-عامة)،فان نظرية النخبة تنبني على خلفيات إيديولوجية، تهدف إلى نقض نظرية الصراع الطبقي التي تعد اللبنة الأساس للفكر الماركسي، و تحاول إبراز المجتمعات الرأسمالية بمظهر ينفي عنها ميزة الوراثية في طبقاتها العلوية، و في ذالك إشارة إلى أن الذكاء محدد أساسي لوصول الأشخاص إلى نوادي النخبة، و إن كانوا يحتلون مراتب متدنية في هرم السلم الاجتماعي في بداية حياتهم. فأمر النخبة إذن عبارة عن الأشخاص الذين يظهرون صفات استثنائية و يتميزون بكفاءات عالية أهلتهم لاحتلال مواقع إستراتيجية من المجتمع، ومكنتهم من التحكم في السلطة و المساهمة في صياغة القرار السياسي.
و تكاد تجمع مختلف الدراسات السوسيولوجية التي قاربت موضوع النخبة المغربية على أنها عبارة عن أقلية تؤثر في سلطة القرار و تتدخل في توزيع منافع الدولة، و تضم كلا من الأحزاب و النقابات و الأسر الكبرى و القبائل و العلماء و الشرفاء، و أعضاء الديوان الملكي و الوزراء، والسفراء و أعضاء البعثات الدبلوماسية و العمال و الباشاوات و اللجان التنفيذية للأحزاب وقادة النقابات و ممثلي الغرف و البرلمانيين … حسب ما ذهب إليه “واتر بوري” و غيره، وتضيف دراسات أخرى أن النخبة المغربية هي عبارة عن شبكات من العلاقات و المصالح تشتغل على السلطة المادية و الرمزية لدوائر إنتاج القرار السياسي، مكتسحة لمختلف تضاريس المجتمع و أنساقه، لكن التساؤل الكبير الذي يصاحب كل دراسة للنخب المغربية يتمحور حول من مهد الطريق لهؤلاء نحو قشدة المجتمع من أجل الوصول إلى مراكز حساسة في المجتمع ؟ و ما هي العناصر التي تداخلت و تفاعلت ليحتلوا مواقعهم بفضاءات صنع القرار؟ وما هي شروط بقائهم ضمن دائرة النخبة ؟
لسنا في حاجة للتدليل على أن الطريق نحو هذه المواقع لا تكون سالكة و بنفس الليونة لكافة المواطنين و خاصة ” للذين هم تحت ” كما و صفهم عبد الرحيم العطري في كتابه “صناعة النخبة بالمغرب “، و لا نجهل الرساميل الضرورية و اللازم توافرها لضمان مكان مريح ضمن حقل النخبة. لكن متيقنون أن جزء من نخب الجهة الشرقية شكلت الاستثناء العارض في إطار “التشريح السوسيولوجي لمسارات صناعة النخبة بالمغرب” فلا هم من الأصل النبيل، و لا هم من أصحاب الرساميل الرمزية.. بل أكثر من ذالك حتى الذين وصلوا منهم إلى مستويات عليا من مراكز صناعة القرارات السياسة، ظلوا أوفياء لقيمهم ومبادئهم، ولم تتلطخ مسيراتهم بخيانات ولم تتوج مراحلهم الذهبية بغنى فادح تشتم منه رائحة الانقضاض على المال العام أو الانخراط في اقتصاد الريع بكل تمظهراته، فلراهنية هذا التميز جذور متأصلة في ماضي نخب الجهة الشرقية، ولهذا الماضي استمرارية واضحة في الحاضر، وبذلك يمكن أن نجزم أن كل امة تعرف مزيجا من الثقافات السياسية، يكون إما متمايزا أو متوازنة توجهاته، أيا كانت طبيعته فهو نتاج تراكمات تاريخية و معتقدات سياسية مترسبة عبر مراحل مختلفة .
الثقافة السياسية لدى نخب الجهة الشرقية
يقصد بالثقافة السياسية مجموع القيم و الأفكار و المعتقدات المرتبطة بظاهرة السلطة في المجتمع، وذالك بالرجوع إلى الجذور الفكرية و الثقافية لتفسير السلوك السياسي لدى النخب والرأي العام. إن دراسة تشكل القيم و أنماط الحكم و ميراث التاريخ و الثقافة و الدين و الجغرافية و التجربة التاريخية، قد تصل بنا إلى تحديد نوع الثقافة السياسة السائدة، و من ثمة الوصول إلى تفسير عقلاني للسلوك السياسي للفاعلين في الدولة والمجتمع . على ضوء هذا التعريف يمكن التساؤل حول توجهات و أبعاد الثقافة السياسية لدى النخب المنحدرة من الجهة الشرقية.؟ و عن المحددات التي تحكم أداء النخب و تقويمه؟ ما هو دور الكفاءة و الأسرة و القبيلة و الحزب و الولاء للمخزن في الإستوزار و تعيين المستشارين الملكيين والمناصب العليا؟ وبالمقابل أي دور للتكوين السياسي والحزبي للمنطقة بتاريخها وجغرافيتها و ثقافتها في ظهور صنف من المعارضين و الراديكاليين من جهة؟ و إلصاق بعض مظاهر التميز لدى ثلة من النخب التي انخرطت في قواعد المخزن، من حيث ممارسة السلطة و الاستوزار و القبول بتواعد النسق السياسي الكائن من جهة أخرى.
إن الحديث عن الثقافة السياسية لدى نخب الجهة الشرقية يمكن مقاربته من خلال التقاطع بين عنصري ثنائية ( العام و الخاص). ذالك أن العام المرتبط بالثقافة السياسية يحيل على ذلك الكل المنجز المميز للهوية السياسية المغربية، وتضم إلى جانب الجذور الفلسفية و المرجعيات، الخطاب و السلوك وإستراتيجية العمل ، أما الخاص فيشير إلى بعض الخصوصيات والمميزات لدى نخب جهة معينة أو صنف معين أو حاملي مشروع فكري أو سياسي مغاير. غير أن التركيز على التميز لدى نخب الجهة الشرقية لا يعني تلك السمة المميزة لحركة تحمل مشروعا سياسيا معينا، و تناضل من أجل بلوغه و فق مسارات تصاعدية خطية و متعرضة للقطائع و الانكسارات، و إنما القصد من وراء هذا التركيز هو استجلاء المظاهر والأسباب التاريخية والثقافية للجهة ونخبها، سواء التي برز إشعاعها في إطار الحقل الرسمي أو تلك التي تفتقت قريحتها من خلال النسق المعارضاتي، أو الحامل لرهانات الصراع مع السلطة.
السؤال الأكثر إلحاحا في هذا المقام هو هل توجد مظاهر سياسية توحد بين نخب الجهة الشرقية و تميزها عن باقي النخب المغربية الأخرى؟ هل يمكن تلمس نوع من الأشكال المميزة في الفعل السياسي، لا يمكن أن نجدها إلا عند نخب الجهة الشرقية، و يستحيل الوقوف عليها لدى باقي نخب المغرب؟
فعندما نحاول مقاربة موضوع الثقافة السياسية لدى نخب الجهة الشرقية، فهذا يعني الإيمان بالتعددية في البلد الواحد. و هذه التعددية ترتكز على العنصر الجغرافي الذي يقر بالاختلاف على مستوى التضاريس والموارد الطبيعية والمناخ، لكن هل لهذا التباين أثره على الثقافة السياسية، أي على منظومة المعايير والمعتقدات و المشاعر السياسية السائدة في هذه الوحدة الجغرافية؟ هل لهذا الاختلاف دور في تحديد المواقف والقيم والمثل والتقييمات المهيمنة عند سكان منطقة ما، حول النظام السياسي في وطنهم؟ فلئن كان الجواب بالإيجاب، فان الحتمية الجغرافية سترقى إلى مستوى عال من الصدق و المصداقية في الوقت الذي تقر فيه بعض الدراسات فقدان مصداقية الحتمية الجغرافية في العديد من الحالات، و مرد ذالك أن التركيز على هذا العنصر الجغرافي تجعل من الإنسان كائنا خاضعا للطبيعة وعواملها دون سواها، و هو ما يسحب من الإنسان خاصيته الأساسية التي هي الثقافة . بيد أن المقصود بنخب الجهة الشرقية لا ينحصر في الرقع الجغرافية المعروفة حدودها و طبيعتها و مناخها، و لكن المقصود بهذه النخب تحديدا هو ذلك الفعل السياسي و النفسي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي تعرضت له الثقافة السياسية لنخب الجهة الشرقية على امتداد التاريخ، فهذه الثقافة بهذا المعنى لها ما يبرر إفرادها بالدراسة و البحث و تخصيصها بالتميز.
شيء من التاريخ
لقد شكلت الجهة الشرقية و مدينة وجدة على وجه الخصوص منذ نشأتها، حالة غير عادية من حيث الأحداث التي لاحقتها. حيث كانت دوما محط صراع مثير، و تتأثر بالتغيرات السياسية حتى أطلق عليها مدينة الحيرة.
ففي كثير من المناسبات، تشير الشواهد التاريخية إلى النكبات والمنافسات والصراع والنهب الذي تعرضت له هذه المدينة كما تشير إلى الحروب المتتالية التي توالت على هذه المنطقة والتي بلغت من العنف والتخريب حتى كادت أن تمحوها من الخريطة .
وقد استعملت تعابير جد قاسية في حق هذه المنطقة وفي حق مدينة وجدة، فمن سوء الصدف أن سليمان بن جرير الشماخ الذي اغتال الموالى إدريس الأول والذي فر من فاس في اتجاه المنطقة الشرقية، حاصره مطاردوه على مقربة من وجدة لكنه أفلت من قبضتهم، فألصقت بهذه المنطقة وبسكانها تسمية “النحس” .
وعندما تكلم أبو القاسم الزياني مؤرخ الدولة العلوية خلال القرن 18 عن ولاية وجدة، صاحبها بالنكبة التي وقع فيها عندما كلفه المولى سليمان بولاية المدينة التي قال عنها: “هي في حيز الإهمال ، وأزعجني لها من غير إمهال، فاستغفيته فلم يقبل كلامي، واسترحمته فلم يرحم ذمامي، وخرجت لها في طالع نحس كدر .. فجاءنا العرب من كل حدب ينسلون ووقع الحرب، فانهزم من معنا من العسكر هاربون فنهب العرب ما عندنا من صامت وناطق وصاهل وناهق” .
وظل سكان هذه المدينة والمنطقة يضربون أروع المثل في التصدي للظلم والجنوح للمعارضة، فأثناء سنوات الرصاص قدم مناضلو هذه المنطقة تضحيات لازالت المحاكمات وجلسات جبر الضرر تشهد على هذا الوضع، وفي انتخابات 1983 ، ستتربع مدينة وجدة على ثلة من المدن التي استطاع سكانها أن يميلوا مع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الحزب الذي أبدى معارضة شرسة في تلك الفترة للطريقة التي كانت تسير بها البلاد، فكانت مدينة وجدة إحدى المدن القلائل التي كان يسير بلديتها مجلس ينتمي أعضاؤه لهذا الحزب، كما أن الانتخابات التشريعية لذات الفترة مكنت مرشحين من الحزب المعارض الاتحاد الاشتراكي من تمثيل سكانها بقبة البرلمان. وأثناء السماح لحزب العدالة والتنمية بدخول غمار اللعبة السياسية سيمنح سكانها ثقتهم لحزب المصباح المعارض في كثير من المحطات.. إنها روح الإحساس بالغبن، وسكان مدينة ومنطقة هذا حالها لاشك أنهم يحاولون الظهور بصفة التميز في كثير من المناسبات، وهذا واقع كثير من نخب هذه المنطقة، والواقع أن مختلف الدراسات حول النخب الاجتماعية بالمغرب قد أو ضحت أهمية الرأسمال الاقتصادي والثقافي والعلاقات الاجتماعية في التشكل الاجتماعي للنخب الحاكمة، فضلا عن ذلك الإلمام العملي بمعايير السلوك والقواعد المطلوبة والمتداولة في عالم النخب وضرورة اجتياز المرشح بنجاح لسلسة مكثفة من الحواجز والمساطر التي يطلق عليها “طقوس العبور” .
وبالنظر إلى الأصول الاجتماعية والخصائص الثقافية لنخب الجهة الشرقية مقارنة مع باقي النخب الأخرى التي استحوذت على مراكز القرار لردح من الزمن غير يسير، يتضح أن فئات اجتماعية متميزة قد فضلت التنحي طوعا إلى أبراج المراقبة والسعي من أجل الاستثمار في مواقع ومجالات أقل اختراقا وأكثر ضمانة ولا تمارس العمل السياسي والحزبي إلا بعد تلقي الإشارات من جهات عليا.
ما أشرنا إليه بالتميز بخصوص أداء نخب الجهة الشرقية لا يسري على كافة النخب المنحدرة من هذه المنطقة، فثمة نماذج من النخب لم يكن همها سوى استغلال مواقعها خدمة لمصالحها الشخصية والعائلية ولم تشذ عن القاعدة العامة للنخب من حيث التشكل والمسير والمصير.
مقتطف من مؤلف: ملامح من تميز نخب الجهة الشرقية لصحافي المميز الأستاذ عبد المنعم سبعي