اعداد:حساين محمد
اختار رئيس مؤسسة الملتقى الدكتور مولاي منير القادري أن يتناول خلال مشاركته، في الليلة الرقمية الرابعة عشرة بعد المائة، ضمن فعاليات ليالي الوصال الرقمية “ذكر وفكر” التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، موضوع : “خلق التسامح والعفو من ركائز بناء المجتمعات”.
استهلها رئيس مؤسسة الملتقى بالتذكير بأن التسامح والعفو قيم أخلاقية سامية تجعل صاحبها أكثر إيجابية وإقدامًا على الحياة، وأنها تمكنه من التخلص من المشاعر السلبية التي تنشأ عن الضغينة والغل على الغير، و تُوَّلِدُ ظواهر العنف والاجرام.
و أوضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالعفو والتسامح، وجعلهما عنوانا لحضارة الإسلام، وأضاف أنه لا حضارة بلا عفو ولا تقدم بلا تسامح، وزاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام ركائز المجتمع الإسلامي الأول على حُسن ومكارم الأخلاق، والتي منها التسامح والعفو، والحلم والصبر، وترك الغضب والانتصار للنفس، موردا ما جاء عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عُقبة! صِلْ مَن قطعك، وأعطِ مَن حرمَك، واعفُ عمَّنْ ظلمَك) رواه أحمد.
وبين أن قيم التسامح و العفو تدخل في باب زكاة النفس وصدقة العرض، و أنها من الأعمال القلبية التي ثورت نقاء النفس وحب الخير للجميع، وأردف أن اللين في التعامل مع الآخرين، والحلم عن المسيء والصفح عنه، من أحب الأعمال إلى الله و رسوله صلى الله عليه وسلم ، مستشهدا بمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية منها قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وأكد أن العفو والتّسامح خُلُقان كريمان تحتاجهما النفس البشرية لتتخلّص من كل الشوائب التي قد تعلق في القلب من أثر الأذى، وتابع موضحا أنهما القدرة على الاحترام والقبول والتّقدير للتّنوع الثريّ لثقافات عالمنا ولأشكال التّعبير وللصِّفات الإنسانيّة لدينا، وأنه بهما تتعززّ المعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفِكر والضمير الحي، واستطرد أنهما الوئام في سياق الاختلاف، لافتا الى انهما ليسا واجبًا أخلاقيًّا فحسب، وإنما واجبٌ سياسيٌّ وقانونيٌّ أيضًا.
وبالمقابل أكد أن الغلظة والشدة والعنف في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، هي المُناقِضَة للقيم، وهي المضادة لطبيعة الإسلام ودليل ضعف لا دليل قوة، وزاد مفسرا أن العفو والتسامح يُقَلِّلَانِ من ارتكاب الجرائم و يدفعان الفساد والشر عن الأمة ، ويساعدان على طهارة المجتمع من الأمراض كالغل والحقد والحسد التي اعتبرها من أسباب الانهيار الحضاري.
وشدد على أن التَّسامح هو الفضيلة التي تُيسِّر قيام السَّلام، وأنها تُسهِم في إحلال ثقافة السَّلام مَحلَّ ثقافة الحرب، وأنه متى كان الأفراد متسامحين ظهر المجتمع قوياً ومزدهراً خالياً من الأحقاد والضغائن التي تولّد المشكلات و النزاعات والصراعات، موردا مقولة الاديب والكاتب الانجليزي ويليام شكسبير: ‘لا تُوقِدُ في صَدْرِكَ فُرْنًا لعدوك فَتَحْتَرِقُ فِيِهِ أَنْت”.
وأكد أن التعايش والتسامح دون اقصاء يميز النزعة الكونية للإسلام، المنفتحة على سائر الأديان والأجناس وفق الضوابط الشرعية، وأن قيمه الروحية مفتوحة لكل الناس دون تفرقة بين الأجناس والألوان واللغات، فهو دين عالمي يتجه برسالته وتعاليمه إلى البشرية جمعاء.
وقال القادري: “إن التحلي بخلق التسامح يقتضي مُجاهدةٍ للنفْس، وتجرُّعِ شيءٍ من الألَم؛ ذلكم أنَّ في التسامح شيئًا من التنازل والهضم للنفْس، لكنَّه في النهاية يمثِّل قِمَّة الشجاعة وغاية الإقدام، التي لا يوفَّق إليها إلا ذَوو العقول الكبيرة، ولا يُعان عليها إلا أهلُ البصائر المستنيرة، ولا يَعرف قيمتَها إلا أصحابُ القلوب النديَّة والنفوس الرضِيَّة، الذين يستشرفون أن يعيشوا حياتَهم مع مَنْ حولهم بارتياح وطمأنينة، دون أن يستبدَّ بهم هاجسُ الكراهية، أو يقضَّ مضاجعَهم قلقُ الانتقام، وصَدَق رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حيث قال: ( ليس الشديدُ بالصُّرَعة، إنَّما الشديدُ الذي يَمْلِكُ نفسَه عند الغضب) “.
ولفت الى أن العفو والتسامح من الصفات التي يتم اكتسابها ، وأنها ليست فطرية داخل النفس، وفسر ذلك بأن الإنسان يتعلم ما يتم تربيته عليه من والديه، داعيا الى وجوب تعليم الناشئة ثقافة الاعتذار و احترام الآخر و تقبل اختلاف الرأي ، و إجمالا كل الطرق التي تجعلهم يمتلكون قلوب صافية ورحيمة تدفعهم إلى عيش حياة كريمة، موردا قول الفضيل بن عياض رحمه الله : (الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان).
ونوه الى أن التربية الإحسانية التزكوية تستأصل جذور الشر والكيد وأخلاق السوء من أعماق النفس البشرية، وتزكيها بالأخلاق المحمدية الكريمة، مستشهدا بقوله تعالى:” قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا “(سورة الشمس الآية 9_10) ، وقوله عز وجل :” أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ “(سورة الرعد الآية 28).
وأضاف أن التزكية والطمأنينة والتربية على قيم التسامح والعفو هي من آليات الأمن والسلم والسلام الذاتي الداخلي، والذي يتمظهر في السلام الخارجي مع الأسرة والمحيط، والعالم والكون أجمع، موردا قول ابن عربي في وصاياه: “افعل الخير ولا تبال فيمن تفعله تكن أنت أهلا له”.
وقال القادري في معرض حديثه عن الاختلاف الذي فيه الرحمة والتكامل والتسامح بعيدا عن الخلاف و الشقاق و التنافر الذي لا يثمر و لا يزرع إلا الحقد و الكراهية: ” أُكتب الإساءة على رمال البحر، عسى موجة أو ريح للتسامح تمحيها، وأنقش فعال المعروف معك على الحجر حيث يستحيل على دوائر الدهر و الزمان أن تمحيها”.
وأكد اننا في حاجة ماسة نحن والأجيال الصاعدة إلى تحصين روحي وأخلاقي وعقدي كي نحافظ على هويتنا الدينية التي ترسي دعائم الأمن الروحي في مجتمعاتنا، وأضاف أنه مهما توالت الأزمات من غلاء للمعيشة او ضيق في سبل العيش من الواجب علينا التآزر والتعاون وعدم الانسياق وراء دعاة العنف، والابتعاد عن الفتن من أجل المحافظة على مكتسبات بلدنا واستقراره و أمنه و أمانه.
واختتم مداخلته بالتأكيد على “الحاجة إلى تحصين وتمنيع ثقافي شديد للمحافظة على هويتنا الثقافية والحضارية، وعلى مشتركنا الثقافي العريق٬ حتى نجعل من البعد الصوفي و الاحساني الحضاري و الإنساني للإسلام ملموسا وقابلا للإدراك والتجسيد كثقافة حية تساهم في إرساء علاقة سليمة مع قضايا المجتمعات المختلفة و تضمن الحصانة والتمنيع لأبناء وبنات هذا الوطن المبارك، فهم عماد المستقبل لهذه الأمة، رجال ونساء خبروا في دواخل أنفسهم أن التسامح ليس انكسار، وأن الصمت ليس هزيمة، وأن التسامح يحتاج قوة أكبر من الانتقام و الانتصار للنفس ، وأن العفو عند المقدرة أبلغ من أي عمل، بهذه المعاني السامية يمكننا التأسيس لنهضة حضارية تعم بخيرتيها الجميع مجندين وراء قائد الأمة جلالة الملك محمد السادس نصره الله وايده”.