التسيير الرياضي عند الكثير من المسؤولين الرياضيين طريق مؤدية إلى الوصول إلى قشدة المجتمع، وسبيل تتجه بأصحابها نحو تكريس حضورها النخبوي، وعند القلائل مسار يفرضه العشق الكبير للرياضة ويفرض التنازل عن الحقوق المشروعة لصالح الفريق وحضوره وألقابه، وفي اعتقادنا أن في مسيرة المرحوم مصطفى بلهاشمي رئيس فريق المولودية الوجدية في فتراته الذهبية من الشواهد ما يؤكد أنه واحد من هؤلاء القلائل.
وتبقى نماذج قليلة من المسيرين الرياضيين المغاربة الذين أعطوا الشيء الكثير للرياضة الوطنية في فترة كان التسيير عقيدة لا تقبل المساومة السياسية ولا الزيادات الإعلامية، كما أن هذه الفترة كان الإعلام الرياضي فيها لا زال جنينيا بدون إنصاف حقيقي أو تكريم يليق بتضحيات هذا الرعيل الأول، وثمة سمة أساسية يتميز بها الحقل الرياضي الوجدي تتجسد أساسا فيما يمكن تسميته بفقدان الذاكرة الموثقة لرموز وأبطال عرفتهم مدينة الألف سنة، حيث يغيب التوثيق والأرشيف المنظم لفترات زاهية للرياضة الوجدية عامة وفريق سندباد الشرق على وجه الخصوص، فيقتصر الإنتشاء بالماضي الذهبي على الروايات الشفهية أو الصور المتناثرة بين عائلة وأخرى. من هنا كان أمر التأليف والتوثيق لرموز رياضية محلية أمرا ذا قيمة علمية متميزة، قد يعيد لمبدأ الانتماء والاعتزاز بالماضي ضرورته في الحركية التاريخية، كما يضفي على الرمزية صبغة خاصة لدى الناشئة والفئة الشابة لتنمية الإحساس بالانتماء والاعتزاز بالرموز.في هذا الإطار يمكن فهم قيمة العمل الذي أشرف عليه الأخوان حديدي بخصوص مؤلفهما الذي وثق لمختلف محطات المولودية الوجدية ولم يغفل الكناب الحديث عن الرؤساء الذين تعاقبوا على تسيير المولودية الوجدية ومن بينهم بالطبع المرحوم مصطفى بلهاشمي، وقبلهما عمل الأخوين الراضي بتعاون مع جمعية قدماء لاعبي المولودية الوجدية والمتمثل في تأليف كتاب عن اللاعب الأسطورة محمد مرزاق تحت عنوان:”محمد مرزاق.. النجومية داخل وخارج الملعب “. وبحق كان مصطفى بلهاشمي حاضرا في هذا الكتاب الذي كان الهدف منه تكبير صورة اللاعب محمد مرزاق.
فعندما تتاح لكل وجدي فرصة الجلوس إلى اللاعبين القدامى أو المدربين الكبار في حديث عن كرة أيام زمان يحضر اسم هذا الرئيس الذي قاد سفينة المولودية الوجدية وحقق معها كل الألقاب الموجودة في جعبة هذا الفريق العتيق، البطولة اليتيمة والكؤوس الأربعة ، وتكبر معه صور اليأس بالقدر الذي يدفع الوجديين إلى ضرورة الاعتقاد باستحالة وصول رجل من طينته إلى رئاسة الفريق مرة أخرى، تتجدد الشهادات في كل مناسبة وتنكشف معها مواقف جديدة تكبر معها هامة هذا الرجل في عيون الوجديين والرياضيين المغاربة، ولعلنا لن نجانب الصواب في هذا القياس إذا ما ادعينا أن ثالث رئيس في تاريخ هذا الفريق العريق بعد بنشيخ الحامل للجنسية الفرنسية والسبتي ذي الجنسية الإنجليزية، يجد في رمزيته وخصوصيته وحبه الشغوف لفريق المولودية الهاتف بفضيلة اللعبة الأكثر شعبية في العالم لتسويق الجهة الشرقية في سوق الشرف والنضال والحب، كما يجد فيها الحجر الذي ينحت فيه ومنه مواصفات فريقه الذي في خاطره وأمنياته المشتهاة. ولعله من باب الكناية المؤلمة أن هذا الرجل لا زال بعيدا عن أي تكريم يليق ببعض من عطاءاته وتضحياته والمقصود هنا هذا الاستمرار في الجحود والشح في إطلاق اسم رجل شغف بالكرة وشغفت به الجماهير الرياضية بوجدة والجهة الشرقية على الملعب الشرفي بوجدة، فهو رمز لهذه المفارقة الغريبة لرجل حاز في حياته على ثلاثة أوسمة ملكية سامية في حياته، ويبخل عنه بإطلاق اسمه على فضاء رياضي لا زالت جنباته شاهدة على جهوده. وهو ايضا هذه العلاقة المؤرقة في علاقة الرياضة الوطنية بالمعمر الفرنسي، حتى صار من حكايات جيل وجيل وتلك كانت بداية خطة وطنية بتوابل رياضية للمقاومة والدفع بالعدو إلى اليأس، لأنه قاوم الاحتلال الفرنسي بسلاح رياضي ففريق المولودية على عهد الحماية كان فريقا للمقاومة، وقف ندا عنيدا في وجه فريق الإتحاد الرياضي الوجدي التابع للسلطة الفرنسية يومئذ، ومن أجل ذلك ناله ما نال رفاقه في الدرب من مضايقات المقيم العام الفرنسي بوجدة هنري برينيل. وعن هذه الخطة يقول الصحفي الرياضي الحسين الحياني في حديثه عن المولودية الوجدية ورئيسها بلهاشمي: ” ..فهو الفريق الثاني المغربي الصرف ـ بعد الوداد الذي اقتحم معسكر الفرنسيين بعنفوان استغرب له الفرنسيون أنفسهم، إذا كان يقهرهم في الدار وخارج الدار، ولولا أتعاب ركوب قطارات الشاربون، لتقاسم مع أندية وسط المغرب: كالوداد واليوسم والراك واسطاد والصام، البطولات والكؤوس..وقد وجدت فيه الوداد متنفسا وطنيا منذ صعوده إلى القسم الأول سنة 1949، ما لم تتنكر لي الذاكرة، كجدار ثان للكرة الوطنية، وهذا ما ستأتي به الأيام سنة 1952، حين سينقذ الفتح من العودة إلى القسم الثاني، وهو يتخلى لها عن مباراة بحصة 5/0 في وجدة، رغم تهديدات العصبة الفرنسية في المغرب بإخراجه من المسابقة..
وكرم الوفادة في المولودية لم يقف عند ذلك الحد، ففي سنة 1959، رفع رجله عن الكرة في نهاية كأس العرش تكريما لفريق القوت المسلحة الملكية ولرئيسها ولي العهد الأمير مولاي الحسن.لأن الجيش لم يكن لها ما تقف به في وجه مارد الشرق.” وما ذلك في الحقيقة سوى اختزال لشحنة دربت نفسها على الاقتيات من مطلب الوطنيين واستعمال كل الوسائل لإثبات الوجود والكينونة.
كان مصطفى بلهاشمي أيضا يحمل هم الإخوان الجزائريين الذين كان الاستعمار الفرنسي قد فعل ما فعل فيهم، وظل مساندا للجزائريين في معركتهم التحررية ولو عن طريق الرياضة، وذلك في العرف السياسي لتلك المرحلة يعني بلوغ مرحلة متقدمة في هرم النخب المهيأة للنضال والشغب كما هي مهيأة للحضور التام بعد الاستقلال، لذلك بودل الفريق الوجدي من طرف الجزائريين حبا بحب ووفاء بوفاء، ولذلك كانت سيدة مدن الشرق قبلة لعشاق اللعبة الجزائريين من المدن المجاورة بالجارة الشرقية.. من تلمسان ومغنية ووهران وتموشنت وغيرها، وكانوا جميعهم يتعصبون للمولودية كتعصب أبنائها الأحرار أثناء كل مقابلة تجرى بوجدة، وظلت المولودية الوجدية في هذه الفترة مع إيواء اللاعبين الجزائريين لكن باستحضار قوة الضغط الكروية والرياضية التي تجعل لاستقلال الجارة الجزائر جدوى ومعنى. وفي ذلك ايضا استفادت المولودية الوجدية من خبرات وتقنيات بعض اللاعبين الجزائريين الذين كان الفريق الوجدي يتعزز بهم، ونذكر منهم : الحارس الداي واللاعبين شراكة وحسني وكولوش والصابي، كولو، صاحب هدف الفوز في نهاية 1958 على الوداد.. و زيكو نجل مدرب المولودية زيكو ، وهو فرنسي جزائري.. وكان لمصطفى بلهاشمي في كل هذه االتفاصيل الناصعة اليد الطولى والتدبير الوطني والعروبي الفذ.
ما ألمحنا إليه في البداية بحضور الهم الوطني في مسيرة المرحوم بلهاشمي أثناء فترة الحماية ستعاد صياغته بعد الاستقلال وبرعونة أقوى، فبعد تنظيم المسيرة الخضراء، سيكون فريق المولودية الوجدية أول فريق مغربي يلعب مباراة تاريخية بمدينة العيون مباشرة بعد استرجاعها في أول مقابلة كروية تنظم على تراب أقاليمنا المسترجعة.
كان المرحوم مصطفى بلهاشمي في اعتقادنا يؤمن بأن روح البطولة والرجولة المعروفتين عن أهل الشرق قادرة على رد الاعتبار لفريق كان يحسب يومئذ على المغرب غير النافع، بفضل ما هو كامن في أبنائها من الجنوح إلى العزة والكرامة ورفض كل ظلم مهما يسر، ذلك ما يعن لنا عندما كان رحمه الله ينتفض على الجامعة كلما أحس أن قراراتها تنحو منحى الكيل بمكيالين، وكان رحمه الله يعتقد أن القوة الفاعلة هي التمرد وليس الخنوع، لذلك كانت معركته في سبعينيات القرن الماضي مع الكولونيل بلمحجوب معركة الكرامة كما سماها الصحافي الكبير الحسين الحياني، وقبلها بكثير وبالضبط سنة 1958 كانت له معركة شهيرة مرتبطة بضبط تذاكر مهربة عن طريق مسؤولين جامعيين، وطالب بلهاشمي يومها بتقديم اللصوص إلى العدالة، أو الانسحاب من البطولة وصنفت الجامعة مطلب بلهاشمي هذا في البداية ضمن خانة التهديد الذي لا يقبل التنفيذ، لكن رجولة الوجديين هذه المرة ستضع الجامعة في موقف حرج، حيث نفذت المولودية وعيدها في وقت كان فيه القانون الذي يشطب على الفريق الغائب عن البطولة في مبارتين اثنتين لا زال ساري المفعول، تخلفت المولودية عن مبارتين، وبدت الجامعة كالذي يهدد بسلاح ناري هو في الواقع لعبة للأطفال ليس له من السلاح إلا الشكل، لذلك شرعت في التوسل إلى بلهاشمي للعودة إلى مباريات البطولة مع تلبية مطالبها، وأصدرت الجامعة حينئذ بلاغا رسميا أذيع بالإذاعة الوطنية يفيد أن المبارتين اللتين لم يلعبهما الفريق الوجدي هما مبارتان مؤجلتان سيعادان لاحقا.
لقد انتمى بلهاشمي إلى أفق صاخب بعقل كروي يجد للاعبين مفاتيح انبعاثهم وتحفيزهم نحو الأجود، وحينما يكون التحفيز مبعثه خير الفريق والمدينة تنخرط الفعاليات في المشروع الفاضل، فخلافا للطابع النفعي للسياسيين لم تكن الرياضة عند بلهاشمي مجرد ربح أو خسارة مباراة، كانت رهانا حيويا للخروج من اللانفعية اللصيقة بالشرق في ذلك الوقت، وكانت رهانا ثانيا للمساهمة في بناء الفريق الوطني بلاعبين محسوبين على الشرق، وقد رأينا ذلك في العناصر الوجدية التي قالت كلمتها مع النخبة الوطنية، نتذكر بلخير و المدني مع أول منتخب وطني يتشكل بعد الاستقلال، و نتذكر محمد الفيلالي خلال مونديال مكسيكو 70، و كمال السميري أحد المتوجين بكأس أمم إفريقيا اليتيمة سنة 1976، ونتذكر أيضا امبارك الفيلالي و الحسين بوشخاشخ و مصطفى الطاهري الذين كانت لهم كلمتهم مع المنتخب الوطني في ثمانينيات القرن الماضي، فضلا عن نجوم و هدافين من ذهب أثثوا المشهد الكروي المغربي طيلة عقود من الزمن من أمثال حميد عزاوي و محمد مغفور و احميدة بلحيوان و محمد مرزاق و محمد دريسي… ولعلنا نذكر أن مصطفى بلهاشمي استطاع أن يسير بفريق المولودية الوجدية نحو الممارسة العالمية عن طريق المباريات الودية أو المشاركة في البطولات والدوريات الدولية، منها كأس شمال إفريقيا و بطولة المغرب العربي، و كأس محمد الخامس، وكأس طوطوفوت، ودوريات بالجزائر وأوروبا، فضلا عن مباريات ودية أخرى جرت بوجدة أمام أندية عالمية كأنتر ميلان وأنترناسيونال برازيل، وأخرى خارج العاصمة الشرقية ضد أجاكس أمستردام، وستندار دو لييج البلجيكي، وعلى عهده دشن الملعب الشرفي بمباراة أمام النادي الإفريقي التونسي.
ولا نعتقد أن هذا الإبداع في تصور استراتيجيات عمل لفريق المولودية للوصول به إلى مصاف الفرق الكبرى يمكنه أن يختزل وحده قوة هذا الرجل، فما نعرفه من الحوليات العديدة عن أسفاره سواء مع الفريق الوجدي الذي لا يمكنه أن يغادر حدود وجدة دون أن يكون بلهاشمي بجانب طاقمه أو لحضور اجتماعات الجامعة، يضع له مكانا متقدما ضمن أكبر الرحالة الذين شهدهم التاريخ البشري، وعن هذا التنقل الدائم يقول الحسين الحياني في إحدى شهادته: ” المولودية الوجدية ناد متفرد، لأنه الوحيد الذي يقطن طرف الدنيا في بلاد المغرب الأقصى، ويمارس على المستوى العالي، في مناطق أقربها إليه تبعد بحوالي 400 كلمتر ” فاس “، وهذه العقبة الطبيعية لم تردّ عزيمته ولا مرغته في المشاكل .. وأنا من ذكرت مرة على أن الراحل مصطفى بلهاشمي، لو كان يحمل في وريده عدادا، لوجدناه قطع من المسافات ما لم يقطعه سندباد ولا إبن بطوطة، وهو الذي كان يحضر جميع مباريات المولودية خارج الحدود الشرقية، ويحضر أسبوعيا اجتماع جامعة كرة القدم كل جمعة من كل أسبوع..لما يزيد عن 28سنة ”
لقد بذل بلهاشمي رحمه الله كل ما علمته الممارسة الرياضية والفحولة الوجدية لصناعة فريق يضرب له ألف حساب، وكان بالفعل والقوة الرقم الحيوي في ما يريده الجمهور الوجدي من ترجمة شهامة أهل الشرق على رقعة الميدان الكروي، فكان له ما أراد وما أراده الجمهور في حقبة كان كانت كبريات المدن تتمنى أن يكون لها شخصية رياضية من حجم المرحوم بلهاشمي.
مقتطف من مؤلف: ملامح من تميز نخب الجهة الشرقية لصحافي المميز الأستاذ عبد المنعم سبعي