عزالدين بدري
يا ترى لما هذا التسرع ولما هذا الاهتمام؟
ثمة أخبار على صفحات التواصل الاجتماعي هي في عجلة من أمرها وهي تروج لرحيل عامل الإقليم قبل صدور أي مذكرة إدارية يقينية في هذا الموضوع.
هل هو من باب التمهيد لنقد موضوعي عادل يثني عليه أم من باب التنفيس المرتبط بملاحظة وتتبع لم يألفا طريق العمل التي وظفها هذا الرجل.
هل هذا الرجل ساهم في تغيير مسار مدينة بركان وإقليم بركان -المنطقة التي بات لفترة تجاوزت الخمسة عقود راكدة – أم كرس قاعدة الفساد وعطل بصيص كل دينامية في الأفق؟
وهل انطلاقا من هذا التساؤل المهم وغيره ستوضع مفاضلة بين بقائه ورحيله؟ وعلى أي مقاييس ومعطيات ونقود ستبنى هذه المفاضلة؟
هل يستحق منا الرجل استحضارا لما قدمه العرس إن رحل، أم المناحة العظيمة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال المهم علينا ان نسير هذا السير المختصر في تاريخ الإقليم. إن استحضار متن التاريخ يبين لنا حجم اللبات التي مرت وتمر عبر مساره ويبين ثقلها ونوعيتها.
منذ تجربة عبد الله الوكوتي سنة1962 عرفت منطقة جبال بن يزناسن جغرافيا مدينة بركان أعمالا إدارية لم تكن ملفتة للانتباه، ثم استمرت ضبابية هذه الصورة إلى سنة 1994 سنة تدشين التقسيم الإداري تحت إشراف عمالة بركان .
قبل التسعينات كانت هذه الاعمال غير مقنعة، غيبت النبل والشفافية وأحضرت اللامبالاة بدل الإخلاص والإيثار والضمير ومسؤولية الرسالة، كان سعي هذه الأعمال بلا هدف جماعي وبلا تصميم لمدينة نموذجية مترابطة الأطراف ب”المداشر” والقرى التي ستحتاجها مستقبلا. وبلا استحضار للجماليات ومعمار المدينة ومكوناتها وجيوبها وهوامشها. وبلا تفكير في مواضيع رئيسة عليها تقام سعادة وطمأنينة الإنسان، وبلا تفكير في تنمية محيط المواطن وتنميته، غيبت هذه الاعمال فلسفة الرسم والتخطيط والبرامج والاوراش والهيكلة والتصاميم المتكاملة والاستراتيجيا الاستشرافية…إلخ ، وكل هذه المعطيات السلبية السابقة من عمر مدينة وإقليم ناشئين ضربتها التحولات الجذرية التي جاءت مع عامل الإقليم محمد علي حبوها.
بين إذن، ان هناك لبنات في هذا التاريخ تختلف شكلا ومضمونا، ثقافة وسلوكا.
كانت فترة ستينية وما بعدها إلى حدود أواخر العشرية الثانية بعد الألفية شهدت الغلبة للافتخار الأجوف وللفرقعات الصوتية بلا أثمار: عصير كرم فاسد مثمل يساعد رهط الثمالة على أن يفكك أوتاد الخيم، ليعربد فوق الحصيرة والسجاد، وكانت الغلبة أيضا للمحميات التي سيجها فتات الخبز وقطرة العسل، فترة الفتور والحماسة الاستعراضية ورفع أبواق القبلية الهجينة الضارة، مع إعطاء الهيمنة للشعارات السياسية التي تصل مرتبة ما هو مقدس وطابو.
هذه الأعمال كانت ملجمة لكل النزعات التنموية والمبتكرة، وممجدة للذات وأنانيتها ومصالحها، وخادمة لترس يحمي التنظيم السياسي الماسك للعصا وحولها الافعوان.
ظلت المنطقة غير جريئة على اقتحام ساحات المعرفة المتنوعة وليس لها الشجاعة لا على صوت المطالبة بالإنصاف وتهيئ الملفات، ولا على تكسير قيود النزعة الإقصائية والاستصغار، ولم تنجح في الاستفادة من الاستقاظة التي عرفها المغرب، ولا كان عندها النهم بلا شبع من التصورات والروى التي قدمتها بداية العشرينية، ظلت منكمشة وخجولة تراقب التحولات الجوهرية في أكثر من مدينة، والانجازات المهمة التي لفتت الانتباه مقارنة بالماضي وبوتيرته .لقد سكنها التوجس ولم تعبر على أي طموح في الأفق لتحسين الأوضاع ، وفضلت أن تبقى بلا حراك حقيقي ، مربوطة الى وتد صدئ عنوانه: التخلف الاستعلاء على القانون والمواطنين و الدسيسة والتهديد الضمني و الترويع الرمزي لحياة المواطنات و المواطنين تلك الحياة التي تليق بالأدمية ، بعبارة شعرية أخرى: لم تكن متحفزة لمهمة الينابيع التي تروي الأرض اليابسة.
لم يحقق إقليم بركان قبل نشأته المتأخرة ولا بعدها الى حدود نهاية العقد الأول والنصف الثاني بعد العشرينية مكاسب تنموية مهمة ولا نجح في فك العزلة عن مكوناته ولا في تخليصه من خناق قاتل أحاط به من كل النواحي نتيجة ، الهجرة الداخلية النشيطة و التجزئات العشوائية، وغياب روح وميثاق وجمالية المدينة وضوابطها، وتغيير الخرائط الانتخابية. لم يكن متوازيا مع التصورات التي ينشدها فكر التنمية الممتح من التجارب العالمية ومن الخصوصية والاحتياجات والمتطلبات المغربية، كانت المدينة أشبه بخم ضيق، وكانت الجبال أشبه بمكان معزول، وغيبت كل هيكلة ضرورية ومعها غيبت أيضا الروى التشكيلية وكل الروافد الثقافية…إلخ
ظلت المنطقة منذ الستينات وقبل هذا التاريخ الى العشرينية الأخيرة غير جريئة على اقتحام ساحات المعرفة والابتكار والخرطنة والتواصل عبر عوالم الانترنيت، ولم تبد أي استجابة للمنبهات التنموية التي كانت تعرفها مدن العالم وبعض المدن المغربية وغابت عنها شجاعة المطالبة بالإنصاف وتكسير قيود النزعة الاقصائية والتحقيرية الضمنية والاستصغار. ولم تجرأ على تكسير سجون الطرقات ولا على تنظيم المعلومة والحد بل، الحسم مع الفوضى ومحق صور الفساد.
ظلت بلا ترجمة قوية للمكتسبات الطبيعية والبشرية التي يزخر بها الإقليم، وبلا ترجمة لأفكار مثقفيه وجاليته ونخبه المتواجدة في مناصب مؤثرة.
عندما جاء هذا ا الرجل محمد علي حبوها أعطى تصورات خلخلت المعادلة الجامدة والفاسدة وقدم خلال فترته ما لم يقدمه أي عامل منذ القرن الثامن العاشر عند سنة1859 الى الآن لمنطقة جبال بني يزناسن في حدودها الجغرافية.
كانت كل قراراته إغناء للنقاش وكانت رافعة بارزة للمقترحات الناجعة المساعدة على تفتيت صخور سيزيف التي عذبت الإقليم لسنوات. لقد مكنت تلك القرارات إقليم بركان من مكاسب لم يعرفها في مساره التاريخي. لقد حدت من سياسة الموج الدوار وفسحت الطريق للسير نحو الهدف بلا متاهة ولا مطالبة بتتبع خيوط كركوزة البهلوان ورقصها.
هذا الاجتهاد والابتكار والابداع والجرأة على تغيير صورة الإقليم، وعلى تشكيل جمالياته، والجرأة على خرطنته وتوسيع مؤسساته وتنظيم مسالكه وربطه بالرقمنة المتفوقة رغم نشأته الحديثة والإصرار على نقله رغم ضعف الزاد الى مصاف الأقاليم التي لها مميزات ومقومات ومكونات وتاريخ ومعطيات حضارية عريقة حركت بعض الأقلام التي تعشق التقاطب والتضاد متسلحة بحالات من العصيان والعقوق الذي رفض اكثر من منجز حضاري ومعماري، ورفض أكثر من مقترح علمي واستغل فرصة الفشل الحكومي في توفير مناصب الشغل وتوفير الدواء ومتطلبات العيش الكريم للمواطنات والمواطنين.
حاول بعض المبحرين الذي يتعبدون عند مذابح الفايس بوك وهم يحاولون جمع زمرة من السدنة والاتباع أن يتناولوا الهشاشة والتخبط والفوضى التي عرفها الإقليم من تأسيه سنة 1994 وقبل التأسيس من زاوية عدالة نقدية غير مقنعة. لقد ربط بعضهم تركة قرن من الإهمال والفحش الاستعماري وحوالي عشر قرون من النسيان الذي لا يذكر الا فاس ومراكش عاصمتين تاريخيتين للمغرب ، وخرافة قديمة جمعت الوحش بتجمعات بشرية مشتتة بجبال بني يزناسن لم يكن لها علم ولا إدارة ولا قرطاس ولا رسول برجل السواد الأعظم من ساكنة الإقليم والجالية والمتتبعين يشهدون له بتشمير الساعدين واستماتة في العمل ونقاوة اليد ، كما أضافوا على تركة هذا التاريخ المؤلم الذي عاشته المنطقة صورا ومظاهر من الفوضى التي عرفتها بعض أزقة المدينة وملفات من الفساد التي لاتزال الروى فيها غير واضحة ليوجهوا انتقاداتهم غير الموضوعية و الموظفة لأسلوب الانتقاء والتتبع للجزئيات مع الإصرار الدغمائي منهم على إغماض العيون أمام جبل من الاجتهاد والتضحية .
لقد ربطوا بلا استحضار للعنصر التاريخي المتخم بمخلفات سيئة وفاسدة ثقيلة وثقيلة جدا بين عطب تاريخي وهذه الشخصية التي لا ناقة لها ولا جمل في ملفات الفساد الماضية التي غابت بيد أن ندوبها ظلت باقية.
هؤلاء في أكثر من مرة ينقرون على الفضاء الأزرق أحرفا تفرح لمغادرة السيد محمد علي حبوها الإقليم وتروج لهذا الخبر وتريد ان تروج له كما تروج للعرس الاحتفالي، ولسقوط الغيث ولربح في ورقة اليناصيب.
هؤلاء لم يكونوا منصفين ولا مقنعين في تغرداتهم. لقد ربطوا مخلفات الماضي وهم للأسف غير ملمين بمعطياته التاريخية بتصورات وروى ابتكرتها المرحلة الإدارية الأخيرة من تاريخ هذا المقال والتي من مقوماتها: الابتكار والقراءة والاجتهاد والايثار والجرأة في اتخاد القرار وحل المشاكل.
دون إطالة في هذا الموضوع نعود الى السؤال المهم الذي تبنى عليه المفاضلة في انتقال عامل الإقليم محمد علي حبوها من عدمه هل يرتبط هذا الانتقال إن حصل بالعرس الاحتفالي أم بالمناحة العظيمة؟
أعتقد شخصيا ان انتقال هذا الرجل وهذا رأي يتفق عليه كثير من المتتبعين والعارفين حسب حدسي ان انتقاله مناحة عظيمة وحزن لن يمحي في أيام أو سنوات معدودات وذلك راجع لمجموعة من المعطيات العلمية والعاطفية والصوفية التي تعلو فوق اللغة.
فالرجل كتب تاريخه بالمنطقة وهذا مالم ينجح فيه كل العمال الذين سبقوه، فاسمه باق في الذاكرة الجماعية. لقد وشم اسمه على أكثر من جلد لمواقفه الإنسانية التي لاتباع ولا تشترى
ووشم اسمه أيضا في أكثر من عاطفة لمواقفه الوطنية الصادقة، رجل بمجرد معرفته طببيعة المكان كونه فاسد يغادره فورا وهو ينفض غبار قدميه عند عتبة ذلك المكان، رجل حين يمسك المحراث لا ينظر الى الوراء، رجل عند كل نهر فائض على ضفتيه يقف يرشد المواطنات والمواطنين الى قنطرة عبور آمنة
رجل أثبت انه ليس جدارا مخلخلا وأنه لا يتزعزع أمام الهراء واللغو، طموحه أن يسير بالإقليم فوق الذرى ويتمنى للإقليم أن يتسنمها، متواضع ملم بثقافات، أعلن حبا جما للإقليم، بين ارتباطه الوثيق بمنظومة القيم، كرس لبناء العمران وبناء الإنسان، قدم مقترحات وملفات وأفكار وتصورات وكان مدربا مقتدرا تعرف المتفرجون والمتتبعون على فلسفته وروحه واستماتته.
نعم. إن انتقال هذا الرجل عن الإقليم مناحة عظيمة.
الرجال يرحلون يغيرون الأماكن. وقد يموتون، في كل يوم يرحل عنا أخيار رحيلا مؤقتا أو رحيلا أبديا وفي لغة الاكوان كل يرحل: الجبال والأشجار الباسقات والمحيطات والنجوم العملاقة، ولكن، يبقى الأثر: أثر معادن الأحجار الكريمة وبريقها، أثر الوميض الصوفي، أثر المدافعين عن منظومة القيم.
هذا السديم اللامتناهي كم هو غامض، هذه اللغة الهشة لم تتطور لتعبر عن عمق المشاعر، هذا الضجيج الذي يملا زوايا الكرة الأرضية غدا يدخل الديجور والإنطفاء.
خير ما اختتم به هذه المقالة محمد علي حبوها يوم قدومه وهو ينبش في ملفات العرقلة لدواليب التنمية المغذية للفساد: إن معطفي فوق كتفي لقد ارسلني جلالة الملك نصره الله لأشتغل.