اعداد:حساين محمد
بمناسبة مشاركته السبت 10 أبريل الجاري، في الليلة الرقمية الثامنة والأربعين المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، تحت شعار”ذكر وفكر في زمن كورونا”، تناول الدكتور منير القادري بودشيش مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورو المتوسطي لدراسة إسلام اليوم، موضوع “مكارم الأخلاق ومقاصد العبادات بين الأثر والنظر”.
استهل مداخلته بالوقوف على الارتباط الوثيق بين الأخلاق والعبادات في الإسلام، وأنهما وجهين لعملة واحدة، لا يمكن فصلهما، مستدلا بقوله عز وجل ” إنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عن الفحْشَاءِ والمُنْكَرِ ” (سورة العنكبوت – الآية:45 )وقوله سبحانه وتعالى: “يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقوُنَ ” (سورة البقرة – الآية: 183 ).
كما ذكر ببعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تثبت هذا الترابط، الذي يجعل البعد الأخلاقي متغلغلا في بناء الإسلام عبادة وشريعة وسلوكا، منها الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه “إنَّمَا بُعِثْتُ لأتُمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ”.
وتابع شارحا لهذا الحديث الشريف، الذي يجعل الأخلاق حقيقة الدين وجوهره وعمقه، منتقدا في الوقت نفسه، الفهم الخاطئ الذي يعتبر الأخلاق قضية كمالية أو ثانوية أو على هامش الدين، مؤكدا على أنه لا معنى لأن يكون الإنسان متدينا يعتز بدينه ويحرص على العبادات ولكنه بعيد كل البعد عن الأخلاق.
وشدد الدكتور منير على أن هذا لا يعني أن يتنكّر الإنسان لعقيدته أو لعباداته، وانما يجب أن تنعكس خيراً على سلوكه، مذكرا بأن هذا الأمر هو ما عبَّر عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بكلِّ وضوح، في الحديث عن أبي هريرة ( ض) “قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، ثم قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ”.
وبالمقابل حذر رئيس مؤسسة الملتقى من أن سوء الخلق يمسح الحسنات مسحاً ويحرقها حرقاً، موردا في هذا الصدد مجموعة من الاحاديث النبوية، منها قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :(أَتَدْرُونَ من المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ (رواه مسلم).
كما أورد مجموعة من أقوال العلماء، منها قول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: “سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضرُّ معها كثرة السيئات”، و قول الإمام الغزالي رحمه الله: “فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكي قبله وينقي لبه، ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى” (كتاب: خلق المسلم، محمد الغزالي).
وأكد أن تهميش أو إقصاء هذه النماذج التربوية الحية أدى إلى هيمنة تصور للدين و للأخلاق ينحصر في أداء شعائر العبادة دون استحضار مقاصدها والغايات المنشودة من سنها، مذكرا في هذا الصدد بالحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بهَا مِنَ الله إِلَّا بُعْدًا”، واسترسل موضحا “.. إذا انعدم الأثر الأخلاقي للعبادة لدى الفرد المسلم، أصبحت بدون أثر على حياة الفرد و المجتمع،…. و لم تؤدي إلى تعزيز السلوك المدني..”، محذرا في هذه الحالة من “.. نتائج عكسية حيث يسود التناحر، و تغيب معه المصلحة العامة، وتهيمن المصلحة الخاصة بما يصاحبها من انتهازية مفرطة”.
ودعا الى أن يكون أداء العبادات عودة مستمرة إلى الضمير، ومواجهة النفس بأنانيتها وانحرافاتها، مؤكدا على أن هذا الضمير يتم بناؤه في مؤسسات التنشئة الاجتماعية انطلاقا من الأسرة والمدرسة وصولا إلى مدارس التربية الروحية الاخلاقية على يد شيوخ علماء، موصلين إلى المقامات الإحسانية، كل ذلك في سياق يتطلع إلى النهضة والتقدم، والنهوض بالإرادة الجماعية للأمة ضمن مشروع تحرير الإنسان من الإصر و الأغلال الدينية والسياسية والاجتماعية، وانطلاقا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ” أَكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا؛ الموَطَّؤون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلَفون، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ”، خلص المحاضر الى أنه “إذا كُنتَ تريدُ كمالَ الإيمانِ، فأحسِن إلى بني الإنسانِ”.
وأشار الى أن التصوف (مقام الإحسان) هو تربية روحية أخلاقية، كفيلة بتوجيه الإنسان نحو طريق الهداية، والسمو الأخلاقي، والرقي في مدارج السالكين، وأضاف أن هذه التربية تسهم في بناء قيم المواطنة، وإعادة ترسيخ الأخلاق في المسلم المعاصر كي لا ينجرف مع آفات النفس والهوى، لافتا الى أن تعزيز هذه الأسس والمبادئ لأهداف التربية على مقام الإحسان، هي ما يجعل بالفعل ديننا صالح لكل زمان ومكان، يتماشى مع روح العصر، موردا مقولة للحارث المحاسبي: “من اجتهد في باطنه، ورَّثه الله حسن معاملة ظاهره، ومن حسَّن معاملته في ظاهره مع جهدِ باطنه، ورَّثه الله تعالى الهدايةَ إليه؛ لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (سورة العنكبوت الآية 69) “.
و نوه الى أن المغاربة على مر العصور تمكنوا من ” …تشكيل وبلورة أصالة عريقة” مشيرا الى أنهم “تمكنوا من بناء نسيج منسجم لهويتهم الدينية والثقافية والروحية، وفق نموذج فريد ومتميز، ومنظومة متكاملة مبنية على اختيارات مذهبية تتوافق والتوجه السني المعتدل”، مؤكدا على أن هذه المنظومة جاءت “منسجمة وطبيعة المجتمع المغربي الميالة إلى البساطة والوضوح والواقعية”، وانهم استندوا “في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه الكريم، ناهجين سبيل العمل وطريق السلوك في تمثلهم لأحكام الدين التشريعية”، وأضاف أنهم “جمعوا بين علمي الظاهر والباطن، فتمكنوا من ترسيخ العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، والسلوك الجنيدي، حتى أضحى التصوف بمخزونه الروحي ظاهرة بارزة في المجتمع المغربي لا يمكن تجاهله، فجوهره تربية روحية تستهدف مباشرة قلب الفرد، لأنه ملك الجوارح و بصلاح الفرد يصلح المجتمع ..”.
و أكد أن الطرق الصوفية ومنها الطريقة القادرية البودشيشية تجعل تأهيل الفرد في قلب اهتمامها، ليصير هذا الإنسان، صالحا لنفسه، مصلحا لغيره، بحيث تجعله قادرا على التعامل مع محيطه بكل إيجابية وفاعلية، غير منعزل أو متهرب من واقعه بخيره أو شره.
و ارتباطا بالاستعداد لاستقبال شهر رمضان المعظم، دعا الدكتور منير في ختام مداخلته الى استشعار أخلاق الصيام وثمرته ومقاصد العبادات لتصبح سلوكا ومعاملة في حياتنا اليومية، مذكرا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع”.