اعداد:حساين محمد
مشاركة متميزة للدكتور منير القادري بودشيش، مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، في الليلة الرقمية الثالثة والعشرين المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، بمداخلة حملت عنوان: “مراقبة النفس ويقظة الضمير وأثرهما في استقامة الفرد ونهضة المجتمع”.
أبرز في بدايتها أن المقصود بمراقبة النفس، النفس اللوامة، التي تلوم صاحبها و تعاتبه، فهي صوت الحق الذي يوقظ صاحبه من غفلته ويدفعه للعمل الصالح مذكرا في هذا الصدد بقوله تعالى في سورة القيامة “وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” (الآية 2) ، وأوضح أن الضمير هو ذلك الشعور الإنساني الباطني الذي يجعل المرءَ رقيبا على سلوكه، ولديه الاستِعداد النفسي ليميز الخبيث من الطيب في الأقوال والأعمال والأفكار، وأنه تلك القوة الروحية، التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره، واعتبره منحة من الله تعالى للإنسان.
وأضاف أن الضمير الحي اليقظ هو الذي يذكر صاحبه دائماً بأن الله سيحاسبه علي كل صغيرة او كبيرة، موردا في هذا الباب مقولة للحارث بن أسد المحاسبي “والمراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل، ومراقبة الله في معصيته بالترك، ومراقبة الله في الهم والخواطر”.
وأكد القادري أن السبيل للوصول إلى مقام المراقبة هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ومصاحبة الصادقين والتزام ذكر الله عز وجل، مشيرا إلى أن الصوفية صنفوا المراقبة ضمن أهم الطاعات وأجلها لما تورثه من الاستقامة والتقوى، مذكرا بمقولة ابن عطاء الله حين سئل عن أفضل الطاعات؟ فقال: “مراقبة الحق على دوام الأوقات”.
وبين أن المراقبة حال باطني يعيشه المؤمن المحسن في سريرته وسره، وهي حسب أبوالعباس البغدادي جعفر بن نصير “مراعاة السر لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة أو خاطر”، وأوضح أن مراقبة الله تعالى في الأقوال والأفعال من أعلى درجات الإحسان؛ مذكرا بما جاء في لسان العرب لابن منظور “فسّر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الإحسان حين سأله جبريل، صلوات اللّه عليهما وسلامه، فقال: (هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك) أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة وحسن الطّاعة فإنّ من راقب اللّه أحسن عمله، والإحسان هو مقام المراقبة”.
ونبه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من مخالفة السر للعلن، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه ابن ماجة عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا).
وعند حديثه عن علامات مراقبة النفس استحضر مقولة ذي النون من أن “علامة المراقبة : إيثار ما آثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى”، وأبرز أن الاستقامة تربِية نبوية تنمي في المسلم آليات محاسبة النفس ومراقبة القلب، لذلك اهتم بها التصوف واعتنى بها الصوفية، وأضاف بأنها جهاز استشعار قلبي دقيق وحساس، يميز به المسلم بين ما ينفعه وما يضره، وأضاف بأنها الضمير الحي والقوة الداخلية التي تدفع الإنسانَ لفعل الخير، وتردعه عن فعل الشر، وهي من ثمرات المعية الصادقة وتزكية النفس بذكر الله، واعتبر أن المسلم الحقيقي هو الذي يراقب ربه، مشبها قلب المسلم الحقيقي بالكتاب المفتوح الذي يتطابق عنوانه مع موضوعه تطابقا واضحا لا غموض فيه ولا لبس ولا التواء، داعيا الى التأمل في حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها ،وكان يستحي من الحق و من الخلق.
كما دعا الى تدريس معاني هذه التربية الروحية الاحسانية على يقظة الضمير و دوام مراقبة النفس واستشعار وجود الخالق، في مناهجنا التربوية حتى نأسس لنهضة روحية نورانية تعيد للأمة أسباب رقيها وازدهارها، وبين أنه لا يقظة لضمير الأمة إلا بيقظة ضمائر أفرادِها و صفاء سرائرهم، وأن رجال السياسة والموظفين والمعلمين والتجار وكل فئات المجتمع مدعوون الى استحضار مقام المراقبة وبالتالي المساهمة كل وفق إمكانياته وفي حدود وظيفته في التنمية الشاملة التي يعود نفعها على الجميع.
وأوضح أن الناسَ أصناف مع ضمائرهم ، وأن الضمائر على ثلاث أصناف، صنف ضميره ظاهر حيٌ، يراقب ربه في السر والعلن ، يشارك أمته همومها وآلامها وآمالها، وهو دليل حي على المؤمنين الصادقين، و ”ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”(المائدة/ 54)،وصِنفٌ ثان من الناس ضميره مُستتر لا محل له من الإعراب، فهو لم يمت ولكنه مستتر لدنيا يصيبها، أو حظٍ يستوفيه، أو يخشى ذرية ضعافا من خلفه، ومثل هذا إن لم يتعاهد ضميره، فسيكون مع الزمن في عِداد الضمائر الميتة، أما الصنف الثالث، فهو الضمير الميت الذي يغلب شره خيره أو لا خيرَ فيه، لا يشاطر إلا في الشرِّ، لسان حاله يقول: أنا ومن ورائي الطوفان، و هذا صنف القلب المريض الغافل عن ذكر الله “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا” ( سورة الكهف الآية 28 ).
وأشار الى ان الضميرَ الحيَّ هو مضخة الإيمان الحقيقيِ، المثمِر، وأن الشريعة الإسلامية جاءت لسد أبواب موت الضمير وضعفِه، مذكرا بالحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام مسلم، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم “لا تحاسَدوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا، ولا تدابَروا، ولا يبِع بعضُكم على بيعِ بعضٍ، وكونوا عباد لله إخوانًا، المُسلمُ أخو المُسلم لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يكذِبُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هُنا” ويُشيرُ إلى صدره ثلاث مراتٍ “التقوى ها هُنا”، ثم يقول: “بحسبِ امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المُسلمَ، كلُّ المُسلم على المُسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه”.
وذكر القادري بنماذج ممن تربوا في مدرسة الرسول صلي الله عليه وسلم ،و ضربوا أروع الأمثلة في المراقبة الحقة لله ويقظة الضمير الحي ؛ منها نموذج أم النعمان، حيث جاء في الصحيح عن النعمان بن بشير، أن أباه بشير أراد أن يعطيه هدية ، يخصه بها دون بقية إخوانه من باقي زوجاته، فقالت أمه عمرةُ بنت رواحة: فلا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم فأتى رسولَ الله صلي الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، إني أعطيتُ ابنَ عمرة عطية، فأمَرَتْني أن أُشْهِدَكَ ، فقال:” أَعْطَيْتَ كُلَّ وَلَدِكَ مثل هذا؟” قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه سلم: “اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم”، قال: فرجَع فردَّ عطيَّتَه.
ونبه الى أن الأمة بمجموعها وهي تكتوِي بلهيب الصراعات والنكبات والعدوان والحروب أحوج ما تكون إلى مراقبة الله عز وجل وإلى ضمير صادق يقدم مصلحة مجتمعِه الظاهِرة وأهله على مصلحته الشخصية القاصرة، وأضاف أنه عندما يموت الضمير و يغفل القلب عن ذكر الله، يؤمن الخائن، ويخون الأمين، ويصدَق الكاذِب، ويكذب الصادق ، وتنطق الرُّويبِضَة، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا فيضلوا ويضلوا،و يعلو الظلم، ويخبو العدل، ويكثر الشح، ويقِل الناصِح، وتستمطر الآفات والعقوبات، ويهدم البنيان لبِنَة لبِنَة.
وأكد أن الطريقة القادرية البودشيشية، وعيا منها بأهمية البعد التزكوي للتصوف، باعتباره نهجا تربويا ينال به العبد رضى الله ورسوله ويفوز بثمرات الصحبة في الله، تحرص سيرا على النهج المحمدي والتصوف السني على أن يكون مريدوها متحلين بيقظة الضمير ممثلين لإسلام القيم الروحية الإنسانية، قيم الرحمة والمحبة والتعايش، و مواطنين صالحين مصلحين ملتزمين بتحمل المسؤولية تحت القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.