اعداد:حساين محمد
متابعو الليلة الرقمية الثانية والعشرين المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال السبت 26 شتنبر 2020، كان لهم لقاء مع مداخلة جديدة للدكتور منير القادري بودشيش مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، حول موضوع “محاسبة النفس في الإسلام وفضائلها وأثرها في المجتمع”.
أوضح في بدايتها أننا نعيش في عصر مادي، مُسرِفٍ في المادية، لم يعد للناس فيه -باستثناء قلة قليلة- اهتمام بالقيم الروحية والأخلاقية، وأصبح الغالب فيه على حياة الناس عدم الاستقرار النفسي المنبعث من نظرتهم إلى كل شيء على ضوء المادة، وبين أن الناس لو انصرفوا قليلا عما شغلتهم به الدنيا إلى تدبر ما في الإسلام من المثل الأخلاقية، وأن وراء المادة عالماً آخر له روعته وجلاله، لغيروا من حكمهم على الأشياء ولوجدوا الراحة النفسية بعد العناء، وأقبلوا على حياتهم بتفاؤل وهمة.
ونبه القادري إلى ضرورة محاسبة النفس وتتبع سقطاتها، وغض الطرف عن تتبع عورات الغير، مذكرا بالحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ”، وأضاف أن عيش الإنسان لهذه الحياة القصيرة وفق المبادئ والقيم الروحية تضفي عليه المناعة القوة والإشراق والبهجة في الدنيا والأمل السعيد في الآخرة، وتجعله يواجه الصعوبات بشجاعة وبسالة، دون أن ينهزم أمام الحياة وابتلاءاتها، عكس الانسان الفاقد لتلك الطاقة الإيمانية.
وشدد على أن المحاسبة تقتضي أن يعيّن الإنسان وقتاً في كلّ يوم يحاسب فيه نفسه، موازنا بين طاعاته ومعاصيه، حيث أورد مجموعة من الأقوال المأثورة في هذا الباب، من بينها ما جاء في كتاب (أدب الدنيا والدين) لصاحبه الإمام الماوردي من أن المحاسبة تستوجب “أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره؛ فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموما استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله فى المستقبل “.
وقال أن محاسبة النفس ومخالفة أهوائها وتهذيب سلوكها يدفع الإنسان دفعاً إلى العمل الإيجابي والإخلاص فيه، مع تقدير كامل للمسئولية، وأن محاسبة النفس ومراقبتها تورث الزيادة في البصيرة، والكيس في الفطنة، والسرعة إلى إثبات الحجة، واتساع المعرفة، وأن المحاسبة لها نتائج وثمار متعددة على الانسان، منها الشعور بالندم والمداومة على طلب التوبة والاستغفار، وكذا التعويض بتدارك ما فاته من أمور الخيّر ليمحو ما مضى من ذنوبه مصداقا لقوله تعالى في سورة هود (الآية 114) (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ )، إضافة الى الاستزادة من الخيرات والمستحبّات والأعمال الفاضلة لتثقيل الميزان يوم القيامة، مذكرا بهذا الخصوص بوصيّة النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء فيها “يا أبا ذر! حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم لا تخفى على الله خافية”.
وأوضح أن محاسبة النفس تكون أولا بالبدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه، وثانياً بالكف عن المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، وثالثاً بمحاسبة النفس على حركات جميع الجوارح، ورابعاً بمحاسبة النفس على الغفلة وتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله، وأشار الى أن النصوص طفقت تشوق، وتحرض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكمية البليغة، موردا في هذا الصدد مجموعة من الأقوال المأثورة منها قول سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي والنسائي (حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك “)، وأيضا ما ذكره الإمام أحمد عن وهب “حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل لها، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات”.
وبين أن حساب النفس له أثران، الأول في الدنيا بحسن خلق الإنسان واستقامته، فيما يتجلى الأثر الثاني في الآخرة بتخفيف الحساب وحسن الخاتمة بإذن الله، موردا عدة أقوال للسلف في هذا الباب، منها مقولة للحسن البصري “المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة “، وكذا مقولة للشيخ أحمد الرفاعي “من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى”، وأكد أن المحاسبة تثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ، معتبرا أن مبدأ محاسبة النفس من أهم مبادئ التغيير الاجتماعي، وأضاف أنه عند الصوفية عموما هو بداية الطريق للسالك في سيره إلى الله، بحيث إذا لم يصح لم يصح التصوف كله، وزاد أن المريد فى الطريق هو مَنْ تجرَّدَ من العلل والأوهام، وصحت عزيمتُه على دخول طريق القوم، فلازم الاستغفار والتوبة، والأذكار المأذونة من شيخه المربي.
وأبرز أن التصوف بما ينطوي عليه من مبادئ تربوية وروحية، منهج حياة، حيث أن الصوفي المتحقق لا يرى تعارضاً بين حياته التعبدية وحياته في المجتمع، وأكد أنه اقتداء بالمنهج المحمدي، منهج المداومة على محاسبة النفس و المسارعة إلى الخيرات فإن شيخ الطريقة القادرية البودشيشية فضيلة الدكتور مولاي جمال الدين القادري، ما فتئ يوصى ويربي المريدين، على محاسبة النفس، وتربيتهم على مكارم الأخلاق والتحلي بالقيم الإنسانية والحرص على مراقبة ومحاسبة النفس، وتوجيه هممهم للتحلي بالأخلاق المحمدية ليكونوا أينما حلوا وارتحلوا ممثلين لإسلام الرحمة والمحبة والتعايش ومواطنين صالحين على قدر كبير من الالتزام بتحمل المسؤولية إزاء أوطانهم.