اعداد:حساين محمد
تناول رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، الدكتور منير القادري بودشيش، خلال مشاركته السبت 19 شتنبر 2020، في الليلة الرقمية الحادية والعشرين، التي نظمتها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، موضوع “التصوف وحسن الظن بالله وبعباده من عوامل الرقي الروحي والأخلاقي في الإسلام”.
وأوضح خلال مداخلته أنه ليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة ولا أسعد لنفسه من حسن الظن، مضيفا أن حسن الظن يؤدي الى سلامة القلب من أذى هواجس النفس ووساوس شياطين الجن والإنس والخواطر المقلقة التي تؤذيه، وتكدر البال، وتتعب الجسد، و أضاف أن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر وصفاء السريرة وبهاء الطلعة، وأنه يدعم روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع، مذكرا في هذا الصدد بأحاديث نبوية شريفة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم “إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا”، كما أورد مجموعة من أقوال السلف والخلف في مدح حسن الظن والحث عليه، كقول الإمام الشافعي رحمه الله “من أحب أن يختم له بخير فليحسن الظن بالناس”.
وأكد أن حسن الظن ركن مكين في حفظ تماسك الأمة الإسلامية، وأساس متين في تحصينها الداخلي من الغوائل وعوامل الفرقة التي تتربص بها لتفكك لحمتها و تقضي بإندثارها، وابرز أن حسن الظن يؤول في مجتمعاتنا إلى عدة أنواع، يتعلق النوع الأول منها بحسن الظن بالله، منبها بخصوص النوع الأول الى سوء ظن شائع بين عوام المسلمين من أن هذا الدين لن ينتصر يوما ولن يتم أمره، وأن الله يجعل الغلبة للباطل وأهله على الحق وأهله، غلبة ظاهرة دائمة لا تقوم للحق بعده قائمة، دافعهم في ذلك ما يشاهدونه من المحن والمآسي التي تصيب المسلمين في الشرق والغرب، مستبطئين الفرج حيث يغفلون عن تحقيق أسباب النصر والتمكين في أنفسهم ومجتمعاتهم، مبينا أن ذلك يعتبر سوء ظن بالله، وأنه خلاف ما يليق بكماله سبحانه وجلاله وصفاته ونعوته، فعزته وحكمته وألوهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل جنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به.
وقال القادري أن النوع الثاني يتعلق بحسن الظن بعباد الله، داعيا للنظر إلى الآخرين نظرة إيجابية مذكرا بالحديث الصحيح الذي رواه الامام البخاري عَنْ أَسْلَمَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ الله – صلى الله علية وسلم -، وَكَانَ النَّبِيُّ – صلى الله علية وسلم – قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم: لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إلا أَنَّهُ يحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ.
و نبه إلى أنه ينبغي على كل إنسان مؤمن عاقل أن يتجنب الحكم على الناس أسوة بالتربية الصوفية التي تدعوا إلى عدم تتبع عورات الناس والابتعاد عن إشاعة الفتنة بين المسلمين، عملا بالمقولة المشهورة “إن علمت شيئا غابت عنك أشياء”، أما النوع الثالث فيتمثل في حسن الظن بين الزوجين، مشيرا الى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقن هذه الخصلة لأصحابه، مستشهدا بما رواه البخاري من أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن امرأتي ولدت غلامًا أسودَ، فقال – صلى الله عليه وسلم – هل لك من إبل؟ قال نعم قال فما الوانها قال حمر قال هل فيها من اوراق أي سود قال نعم قال فأنى اتاها ذلك، قال عسى ان يكون نزعه عرق قال فكذلك ابنك عسى ان يكون نزعة عرق”، موضحا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الرجل في دورة تدريبية تثقيفية، حتى يمتلك المعرفة السليمة ويحسن الظن بزوجته وأهله ويبتعد عن الفرقة وسوء الظن وآثاره السلبية.
أما رابع هذه الأنواع فيتعلق بحسن الظن بالعلماء، وأوضح أن المقصود بالعلماء المخلصين، الذين يدلون على الخير، ويهدون بالحق وبه يعدلون، وأن الله فضلهم بما وقر في قلبهم من علم على كثير من خلقه، مذكرا بقوله تعالى في سورة الزمر(الآية 9) ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وأنه رفع درجاتهم بهديهم، مصداقا لقوله تعالى في سورة المجادلة (الآية 11) ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
وأضاف أن الله يُحيي بعالم أمة بكاملها، كما أحياها بأبي بكر الصديق رضي الله عنه زمن الردة، وبالإمام أحمد زمن الفتنة، وتطرق الى القصة التي أوردها محمد بن علي الشوكاني في كتابه “رفع الأساطين عن حكم الاتصال بالسلاطين”، أنه “يُحكى عن بعض أهل المناصب الدينية، أن حاكم بلده أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعاً، فما زال ذلك العالم يدافعه ويُصاوله ويحاوره حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما، أن يُضرب ذلك الرجل بالعصا، واشترط الحاكم أن يكون ذلك العالم هو من يضربه، فلما ضربه تفرق الناس وهم يشتمون العالم أقبح شتم.. ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا عن ضرب السيف، لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضِّي عنه”.
و سلط الضوء على مسألة من مسائل التوحيد المهمة والتي يغفل عنها كثير من الناس ما ورد في الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني)، موردا مقولة لابن القيم رحمه الله “ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان”، وأضاف أن مقام الإحسان لا يدرك إلا بالتربية العرفانية علي يد شيخ مربي عارف بالمسالك، أحسن الظن بربه فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين، مجتهدا في العمل لهذا الدين والدعوة إلى الله والإنفاق في سبيله بماله ونفسه، يقدم إقدام الواثق بنصر الله وموعوده.
و بين أن ثمرة المعرفة والمحبة التسليم لله في أحكامه والرضا عنه في أفعاله وإبرامه مذكرا بحديث رسول صلى الله عليه وصحبه وسلم “خصلتان ما فوقهما شيء من الخير : حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس وخصلتان ما فوقهما شيء من الشر سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس”، وقوله تبارك وتعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” (سورة الحجرات الآية12).
وأشارالى أن ديننا الحنيف يؤكد على ضرورة نشر الثقة وحسن الظن بين الناس، فذلك يسهم في بناء شخصية المسلم على القيم الرفيعة، حتى يحظى برضا خالقه أولاً، وثقة كل المحيطين به، والمتعاملين معه ثانياً، ويسهم بفاعلية في بناء مجتمعه ونهضته، و حذر من إدمان إساءة الظن بالآخرين، وتخوينهم، واتهامهم بما ليس فيهم، داعيا الى التوبة عن هذه الخطايا التي تجلب غضب الله وعقابه، فصيانة أعراض الناس والمحافظة على حرماتهم وسمعتهم وكرامتهم من فرائض الإسلام وواجباته الأساسية، حتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
و أكد أن الطريقة القادرية البودشيشية، تربي مريديها على حسن الظن بالله وحسن الظن بالعلماء وأولي الأمر وحسن الظن بالناس، لأن التربية على الخصال الكريمة وحسن الخلق هي من ثمرات التربية الروحية، كما أنها تحرص على توجيه همم مريديها للتحلي بالأخلاق المحمدية ليكونوا سفراء لإسلام الرحمة والمحبة و مكارم الأخلاق ومواطنين صالحين على قدر كبير من الالتزام بتحمل المسؤولية إزاء وطنهم و ملكهم حفاظا على مقومات هويتنا الوطنية.