هسبريس – وائل بورشاشن (صور: سفيان بالكوري)
قال مصطفى بنحمزة، عضو المجلس العلمي الأعلى رئيس شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الأوّل بوجدة، إن دول العالم تعرف تنافسا في التعريف برأسمالها المادي، وقدّم مثالا بإعادة بناء إسبانيا السفينة فيكتوريا، التي جالت بحار العالم مع المستكشف ماجلان، لتجوبها وتُحيي ذكرى مرّت قديما، ثم زاد متمنّيا “أن نكون أيضا سباقين لهذا”؛ لأننا لا نعدم صورا لهذا في المغرب خصوصا، لبيان أن الجانب العلمي والثقافي كان حاضرا دائما.
وأضاف مصطفى بنحمزة في محاضرة ألقاها، مساء الأربعاء، بأكاديمية المملكة المغربية، في الرباط، أنّ عندنا علمَين كانا معبَرَين مهمَّين إلى الحضارة الأوروبية، هما: أحمد بن ماجد الملاح الذي سبق ماجلان، وَقاد سفينة المستكشف فاسكو ديغاما، ومحمد بلحسن الوزان الذي عُرِف شأنه فيما بعد، ويحتاج وقفة، وأطلع الأوروبيين على الخزانات العربية، وكتب معاجم بالعربية والعبرية واللاتينية”.
ويرى مصطفى بنحمزة أنّ موضوع الرأسمال اللامادي للمغرب، أصبح يستدعي الاهتمام لسببين، هما: أن الملك محمدا السادس تحدث عنه، ونبه إليه، ودعا إليه في خطابه في 2016 (…) وحاجة هذه البيئة المغربية للاهتمام به، وهي جديرة بها، ولها فيه وفرة، ورصيد كبير”.
وفي كلمته التي قدّم فيها بعضَ أفكار بحث له حول مكوّنات الرأسمال اللامادي للمغرب، يقع في ستّين صفحة ستنشر لاحقا، ذكر رئيس المجلس العلمي بوجدة أنّه قد اعتمد “تقريرين رسميين، لمؤسستين محترمتين، وموثوقتين، يمكن الاعتماد عليهما، وهما تقرير البنك الدولي الذي تحدث عن الرأسمال اللامادي ومكوناته، ويعجبك حصره للرأسمال الاجتماعي في وجود الثّقة، التي تساعد على العمل المشترك… وهذا أمر مهمّ في المستوى الاجتماعي والسياسي؛ لأن ذهاب الثقة تخلخل المجتمع، وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي فيه إضافات، بحكم انتمائه للمغرب وملاحظته له، مثل الرأسمال التاريخي، والوطنية، والاهتمام بالأمن، والجانب الثقافي، والجانب الروحي”.
وأكّد الأستاذ الجامعي أن بحكم هذه التقارير الرسمية فالحديث عن الدين، حديثٌ أصيلٌ عن الرأسمال اللامادي، ثم استرسل مستحضرا نماذج لمكونات الرأسمال اللامادي المغربي، من قبيل: مصادر التاريخ الحضاري المغربي، التي كتبها علماء، وربما ذهبوا في صمت: مثل كتاب “النبوغ المغربي” لعبد الله كنون، وما كتبه الفقيه المنوني، وما تحدّثت عنه معلمة “المعسول” التي كتبها المختار السوسي، وكتابه “معتقل الصحراء” الذي عرَّف بكثير من الشخصيات، وزاد: كتب المختار السوسي عن الأسرة، والألبسة، وعرّفَنا بالمرأة في سوس، وقال إن تعديد الزوجات لم يكن عند الإلغيين، السوسيين، إلا ثلاثَ عائلات.
ومن بين المصادر التي تحدّث عنها الفقيه المغربي، تعريف بن زيدان بمكناس، وخصّ بالذكر الجزء الثالث الذي تحدّث عن الحرف الموجودة بالمدينة، والألبسة، وقراءة القرآن بها… والموسوعة الكبيرة للفقيه داوود التي تبلغ إثني عشر مجلَّدا، وأشار إلى خدمة ابنته حسناء داوود تاريخ والدها، واستحضر في هذا السياق مثالا عن سمو وعفة الساكنة التي قيل لها والملك المولى الحسن قادم إليها ليمكث فيها أسبوعين، اشكوا إذا كانت لكم شكوى واطلبوا فإن مدد الملك كثير، فلم يسألوه إلا ثلاثة أشياء، هي: قراءة الفاتحة، والدعوة له، وللمسلمين كافة.
وشدّد العالم المغربي البارز عن الرأسمال اللامادي الحاضر في علم النوازل، الذي لم نهتم به كثيرا، كما أضاف أنّ المجتمعات التي غابت فيها سلطة الدولة، قام الفقه بذلك، واستشهد بفتوى مغربية من زمن السعديين، تحرّم على من اغتصب أو سرق امرأة ليتزوّجها، أن يتزوّجها حرمة مؤبَّدَة.
ومن بين أوجه الرأسمال اللامادي للمغرب، وفق المتحدّث لغة الكلام، وأضاف أن اللغة المنطوقة المغربية، تتضمّن ألفاظا جميلة عندما تشيع تكون هي البدل عن اللغة الخشنة، التي تسمَع اليوم في وسائل الإعلام والمراسلات، وذكر بنحمزة في هذا السياق: أن المُلاسنات ليست من طبيعة المغاربة أبدا، فالناس كانوا يعرفون كيف يتخاصمون، وكيف يتصالحون، وكيف يحبون، وكيف يُبغِضون، ثم استدرك: لكن حينما تنحلّ الأشياء من عقودها، نسمع مثل هذه الأشياء، التي تحتاج أن يتصدّى لها المثقّفون حتى لا تستفحل.
وعدّد الكاتب والباحث المغربي، نماذج لكلام جميل، يعرف في بعض جهات المغرب، من قبيل: قول “ولد سيدي” لحامل أثقالك، و”بالسياسة” لإيقاف العنف لأن السياسة نقيضه، وكلمة “المسيد” التي قال أستاذ في تقديمه لملخص تاريخ تطوان، أنها ليست مشتقة من المسجد؛ لأنه يكون دائما بعيدا عن الكتّاب، ولكنها توحي بشيء آخر هو “السيادة”؛ فهو مكان اكتساب السيادة التي هي في الأصل للعلم… مضيفا أنه جمع مجموعة من الكلمات في اللغة المستعملة، تدلّ كلّها على حس ووعي حضاري.
ومن بين أوجه الرأسمال اللامادي للمغرب “الشعر المغربي” خاصّة الملحون، وأضاف: استفدت كثيرا من موسوعة الملحون لأكاديمية المملكة، وأفدت من مقدمات أجزائها التي كتبها الأستاذ عباس الجراري. ووضّح المحاضر أن الشعر لم يكن منفصلا عن الثقافة الإسلامية العربية، بل كان بعض من لهم شعر علماءَ، مثل مولاي عبد الحفيظ.
وأكّد مصطفى بنحمزة على أن من بين أوجه الرأسمال اللامادي للمغرب العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، واسترسل شارحا: المغاربة منذ أسلموا كانوا على صلة بكل المدارس والتيارات، واختاروا ما يصلح لهم، واختاروا الأشعرية التي هي مذهب سني محض، ومذهب مناضل وذكي… وكانت ستستمر المعاناة لولاه، مقدّما مثالا بتوقّف المتوكل عن ضرب العلماء، لفرصة بيان المواقف.
ويجيب بنحمزة من يقولون إنّ الأشعرية “مذهب ضلال”، بأنّ فيها خاصية تهم المغاربة، وأن المذهب الأشعري كان في الوسط أينما كان الاختلاف، وقدّم مثالا على هذا، بقول الأشاعرة في خلاف التحسين والتقبيح أن هناك أشياء يحسنها الشرع، وهناك أشياء يحسنها العقل وهي أمهات الفضائل، وقولهم في الحرية والتقييد بنظرية الكسب، التي ترى التقاء القدرة الإلهية والإرادة الإنسانية، وزاد: الأشعرية تتوازن في كل المواقف، وهناك ما هو أهم؛ فالناس اختلفوا في مكونات الإيمان، وقالوا إن من ترك العمل كافر لأن العمل من موجبات الإيمان، وقال أهل السنة إن العمل من مكوناته، لكنه شرط فيه لا شطر فيه، والإنسان، ولو ساء عمله، لا يمكن إخراجه من حاضرة الإيمان، ولا قتله، ولا حمل السيف عليه.
وذكر المحاضر أن المغاربة قد أخذوا مذهب مالك، الذي هو مذهب سُنّيٌّ، عن معرفة، بعدما عرفوا مذاهب أخرى، وزاد: هو مذهبان حقيقة، مذهبٌ أول في العقيدة، ومذهب ثانٍ في الفقه، وهما متلازمان، والإمام مالك لم يكن يقبل بالبدع كيفما كانت، ولم يكن يقبل لا بخارجية ولا اعتزال. ثم استحضر مواجهة الحنفيين والمالكية العبيديين الشيعة في تونس، وبذل كثيرٍ من علماء المالكية أرواحهم فداء لهذا الانسجام، في استشهاد بما ذكره القاضي عياض في الجزء الخامس من كتابه “ترتيب المدارك…”.
وذكر بنحمزة أنّ المغرب عندما ظهر المذهب المالكي، وظهرت الأشعرية، صفى الأجواء التي عرفها مع كل الطوائف من إباضية، وخوارج صفرية، واعتزال البجليين في الجنوب… وهو ما يؤكد واجب الحفاظ عليه، وأن لا تتمّ “المغامرات والعبث فيه؛ فوحدة الأمة، وسلامتها، وانسجامها، شيء يجب الحفاظ عليه”.
ويقول المحاضر إنّ المذهب المالكي حقق الانسجام وحمى هذا البلد، ويضيف: الأشعرية والمالكية يتوازيان، وحتى بعض من يعبثون لا يعرفون أنهم محميون بهذا المذهب المالكي. وبعد استحضار ما قاله له عبد الرحمن شيبان من أن ما وقع في العشرية السوداء، كان أول فتح لبابه بترك المذهب المالكي، أجمل بنحمزة قائلا: يمكنك أن تزيل مذهبا، ولكنّك لا تتحكّم فيما يخلفه، وما يملأ الأجواء…
وشدّد عضو المجلس العلمي الأعلى على أن الرأسمال اللامادي شيء ثمين، ويعني الأمن، والاستقرار، والبقاء، مضيفا: مررنا بنوبات كنّا دائما نجتازها، بسبب أن لنا هذه الأرضية والحماية. ثم زاد في سياق تفاعله مع أسئلة الحاضرين بمقرّ أكاديمية المملكة المغربية أن هذه المعرفة يجب أن نمكّن لها، وأن نبثّها في برامجنا، والأولى الاهتمام بها حتى في الخطابات الدينية في الوعظ، والإرشاد، والخطب.