ماذا تمثل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، أول أمس الاثنين بالقصر الملكي بالدار البيضاء حفل إحداثها؟ وأي دور لها في مواجهة التحديات الكثيرة التي باتت تشكل تهديدا للاستقرار العقدي والمذهبي والروحي، النابعة من أطماع توسعية إيديولوجية أو مادية تريد أن تنشر في هذه البلدان فكرا غريبا عنها؟ وما هي أبعادها الروحية في عالم تطغى فيها المادة؟ وما هي الأهداف المتوخاة من هذه المؤسسة؟ وإلى أي حد يمكن أن تساهم في الحد من ظاهرة التطرف المنتجة للإرهاب والقتل؟
إن الإعلان عن هذه المؤسسة يهدف إلى رفع التحديات والعقبات التي تقف أمام مواجهة التطرف والإرهاب، ورسم الصورة الحقيقية للإسلام، الذي تعرض للتشويه من قبل الإرهابيين والجماعات التي تلجأ إلى التأويل المغرض الذي لا يعتمد على أسس العلم الديني. ولهذا يتبين أن العلماء هم الأقدر والأجدر بحماية العقيدة والفكر المعتدل السمح، باعتبارهم الحماة لتراث بلدانهم، وأيضا المستهدفون بالغزو والتطرف بالدرجة الأولى، ومن هذا المنطلق فإن مهمة العلماء تتطلب منهم اليقظة التامة والمبادرات الملائمة لخدمة قضايا الأمن الروحي والتنمية، وهو السياق الذي جاءت فيه مبادرة أمير المؤمنين بإحداث “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”، لتكون إطارا مؤسساتيا يضطلع فيه العلماء بمسؤولية أداء واجبهم والقيام بأمانتهم، سيما وأن ما يهم بلدا إفريقيا ي مجال فكرة السلم والبناء يهم بلدان إفريقيا بأسرها.
وإلى جانب السياق الطبيعي المتميز، تاريخيا ودينيا وحضاريا، فإن عنصرا آخر يوضح أهمية هذه المبادرة الملكية النبيلة، ويتمثل في الممارسة المغربية بقيادة إمارة المؤمنين لتدبير الشأن الديني في توافق بين الثوابت الدينية والثقافية الأصيلة، وبين الاختيارات الحديثة في مجال التنمية والحرية والحقوق وضمان قيم المواطنة.
ويقدر العلماء الأفارقة النموذج المغربي واستشرافه، ولا سيما بالنظر إلى التراث الديني والفكري والحضاري المشترك، فاقتسام الحكمة التدبيرية في هذا المجال أغلى من اقتسام التجربة في أي مجال آخر.
ولم يأت هذا التأسيس فجائيا بل سبقته مشاورات مكثفة بين العلماء الأفارقة، الذي تم تتويجه بهذه المؤسسة العلمية التي ستمكن العلماء الأفارقة من تنسيق الجهود ووضع البرامج والتشاور وتبادل الرأي والتجارب.
المؤسسة مبادرة تروم توحيد جهود علماء المغرب والدول الإفريقية الشقيقة بهدف التعرف على قيم الاسلام المتسامح، ونشرها وتفعليها. كما تسجد الوعي الثابت والعميق لجلالة الملك بالأهمية التي تكتسيها الأواصر سواء الروحية أو التاريخية والثقافية التي تربط المغرب وإفريقيا، بالنظر إلى الارتباط الوثيق للمملكة بهذه القارة.
كما يأتي إنشاء هذه المؤسسة، من أجل حماية العقيدة الإسلامية والوحدة الروحية للشعوب الافريقية من كل النزاعات والتيارات والأفكار التضليلية التي تمس بقدسية الإسلام وتعاليمه ومقاصده.
وستعمل المؤسسة على تشجيع البحوث والدراسات فيما يخص الفكر والثقافة الاسلامية، رغبة من أمير المؤمنين في المحافظة على وحدة الدين الإسلامي وصد التيارات الفكرية والعقدية المتطرفة، وفتح فرص لتبادل الآراء بين علماء القارة الإفريقية وتنمية مدارك الناس العلمية والمعرفية.
وستعمل هذه المؤسسة الفريدة من نوعها على الصعيد الإفريقي، على إحياء التراث الثقافي الإفريقي الإسلامي المشترك من خلال التعريف به ونشره والعمل على حفظه وصيانته.
كما تسعى المؤسسة ذاتها إلى توطيد العلاقات التاريخية التي تجمع المغرب وباقي دول إفريقيا والعمل على تطويرها والتشجيع على إقامة المراكز والمؤسسات الدينية والعلمية والثقافية في القارة.
فالمغرب نال سمعة دولية، وحقق مكتسبات عديدة في ميدان إشاعة الإسلام المتسامح في عالم تعصف به الاضطرابات، وهذه المكتسبات بوأته مكانة متميزة ضمن كبريات الدول التي تسهم بقوتها الناعمة في مواجهة التطرف الذي بات يرخي بظلاله في مناطق عدة.
ويمثل جلالة الملك الإسلام المستنير القادر على الوقوف سدا منيعا أمام تنامي التطرف الذي بلغ مستوى مقلقا يعصف بأي جهود للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ووعيا منها بالخطوات التي قطعها المغرب في مجال إصلاح الحقل الديني وكذا بالسلم والاستقرار اللذين تنعم بهما المملكة بفضل دستور طلائعي يقر بالهوية التعددية للمملكة، طلبت العديد من البلدان الإفريقية من المغرب الاستفادة من تجربته الرائدة.
وفي هذا السياق، كانت عدد من البلدان من قبيل مالي وغينيا كوناكري وكوت ديفوار ونيجيريا والغابون وليبيا وتونس، قد قدمت طلبات لتمكين أئمتها من الاستفادة من تكوين بالمغرب حول تعاليم الإسلام الوسطي والمتسامح والنهل من قيم الوسطية والحوار الثقافي واحترام الأديان المشهود للمغرب بريادته فيها.
وستفرض مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي ستشكل مدرسة لمكافحة التطرف نفسها كتجسيد جديد لوجاهة دبلوماسية جلالة الملك محمد السادس الرامية إلى ضمان تنمية شاملة للقارة الإفريقية قائمة على الأمن الروحي والتفاهم وقبول الآخر.