الدكتور محمد بنيعيش
الناس قالت لي بدعي وأنا طريقي منشورة
إذا صْفيت مع ربي العبد ما منّو ضرورة)
أولا:الدعائم الرئيسية لرهان الاستمرارية في الطريقة البودشيشية
1) هي الطريقة ،اسم على مسمى وعلم على مبنى وورش يرمز إلى السير المتواصل والجد فيه مع تحديد الهدف منذ البداية من غير التفات ولا التفاف…ومن طبيعة الإنسان العادي ،بل كل كائن حي ،أن يأمل الاستمرارية والبقاء،بقاء الذات والصفات والأفعال ،وبقاء الصيت والأثر وجميل الفعال.
هذا الأمل سيكون محققا لا محالة عند أهل التحقيق قد عبر عنه النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى أدق وأعمق ، يمكن إدراجه في علم النفس والمجتمع و الأنتربولوجيا(علم الأناسة) والدراسات المستقبلية وهو قوله”ّ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله و هم كذلك “و”لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله الله”.”مثل أمتي مثل المطر لايدرى الخير في أوله أو آخره”. فهناك الأمل في الاستمرارية وسميائيتها وأدواتها وشروطها.
والطريقة القادرية البودشيشية بتعاقب شيوخها نسبا وسرا وحالا ومنهجا هي من هذا النموذج الثابت والظاهر، تسير على خط مرسوم ومنقوش ذهبا وذهابا من غير تبديل ولا تغيير ولا تراجع أو إياب معكوس وناكص،وذلك لأن معينها ومشربها محمدي بالدرجة الأولىووراثتها شرعية ومستحقة ،وراثة أخلاقية وروحية بسند متصل من عدل إلى عدل إلى حضرة سيد المرسلين وخاتم النبيين.
هذا هو معتقد أهلها ومريديه خاصة،ولا تلزم أحدا كُرها بالتسليم به إلا من اقتنع طواعية بدليل الحال قبل المقال وبحركة القلب قبل العقل ولوك اللسان.
وحينما يكون مثل هذا الأمل صادرا من نبي رسول أو من ولي مفترض راسخ القدم في باب الأسوة والمعرفة بالله فذلك هو التحقيق بعينه وتلك هي الاستمرارية الموفقة مهما خذل سيرها المخذلون وشوش المشوشون وتوهم سقوطها المتوهمون.
2) ولقد كان الشيخ حمزة القادري بودشيشي رحمه الله حريصا على ضمان هذه الاستمرارية في عقبه ومريديه منذ البداية حتى النهاية ،حيث لا نهاية في هذا الباب، وذلك على قاعدة كان يرددها وهي “الطريق أمامك”و”مقصودنا هو الله”،كما أنه قد كان ساهرا وبكل قوة وعلو همة على لمّ شمل المريدين لإكمال مسيرتهم نحو العلى من المطالب والتطلع إلى أفق الأفق :”وأن إلى ربك المنتهى”.
علما منه وتحققا بأن الشيخ العارف المأذون والكامل هو الذي يكون حيا على أرض الواقع وهو المؤهل لهذه المهمة بلا منازع ،فإذا انتهى أجله خلص أمله واستنفذ مهمته وتوقف مدده واختفى سره.
لكن مقام الشيخ حمزة قد كان عاليا جدا في نظر مريديه ومحبيه،قد تقدم من خلاله على جميع الشيوخ من قبله وتجاوز مقاماتهم ومستوياتهم التربوية والروحية ،فجعل من الطريقة القادرية البودشيشية مدرسة مستمرة العطاء مركزية الإمداد وتخريج الشيوخ على نفس المقاس والطود الشامخ باستحقاق وإجازة ووصية رسمية.
وهذا كله في نظرنا من فضل الله على هذه العائلة الكريمة وعلى هذا الشعب المغربي الأبي بمطيعيه ،وعاصييه سواء، وعلى البلد والدولة القائمة بغض النظر عن الموازنة بين إيجابياتها وسلبياتها.حتى إنه قد بلغني أن بعض زعماء الأحزاب السياسية بالمملكة المغربية قد صرح في أحد لقاءاته مع الجمهور بأنه :من كان يريد السياسة فليأت إلى حزبنا ومن كان يريد الدين فعليه بالطريقة البودشيشية ،بالرغم من عدم انتمائه إليها عمليا.وهذا إن صح فسيكون وعيا سليما بقيمة الطريقة ودورها الروحي والتربوي والوطني في هذا البلد.بحيث قد تقف على مسافة واحدة من جميع الأحزاب السياسية وتحترم دورها وطاقتها لخدمة الوطن كوطن والولاء للملك كرمز وعنصر أساسي للاستقرار والاستمرار .
وهو فضل ينبغي أن تفتخر به الأمة وتزهو وتطمئن وتدنو، وذلك لأن الطريقة قد تمتلك طاقة لا نظير لها في العالم أجمع، ولا مقارنة بينها وبين باقي القوى الموجودة عبر المعمور ،وهي ما يعبر عنه الشيخ الحالي مثلما كان يقول والده من قبل بالسر والإذن !!! وأي سر هذا ؟وكيف ولماذا؟ إنه سر القلوب وتوحيدها وقربها وتقاربها وجذبها وتجاذبها ،ورسوّها وترسيخها.وهذا من أعظم الوسائل لتحقيق الاستقرار لدى كل فرد منا وإخراجه من خطر التوحد إلى جمال الوحدة والتجانس والتعايش ،وحينما يستقر الفرد على هذا المنوال فبالتأكيد سيستقر المجتمع والدولة والمجتمع ويسعد الوطن ومعه الأمة.
ولقد نصت وصية الشيخ حمزة قبل وفاته على أن الوارث لسره بالاستحقاق والكفاءة من غير منازع هو ابنه الشيخ جمال الدين ثم حفيده من بعده الشيخ مولاي منير،وهي وصية شرعية وقانونية وأخلاقية لا لبس فيها ولا خلط ولا تدليس ،قرئت على الملأ وشهد عليها العالم بإعلان رسمي موثق.
فلقد كانت هذه الوصية الفيصل القاطع لكل جدل حول من سيخلف الشيخ في الطريقة ،وهل الخلافة واحدة أم متعددة ،وإذا تعددت فهل العدد مفتوح أم محصور ،وهل هو من داخل الأسرة أم من خارجها؟وبه تم الإعلام والسلام.
وهكذا انتقلت الوراثة بطريقة سلسة وتسليم كلي من طرف المريدين للسيد جمال الدين بن حمزة القادري بودشيش على أنه شيخهم الحالي بلا منازع وذلك بناء على قاعدة “أن التسليم للشيخ الأول ملزم بالتسليم للشيخ الثاني ثم بعده الثالث ،لأن لازم المذهب مذهب كما تقول القاعدة الأصولية ومنطق التلازم”.بل قد ينطبق على هذه الحالة حديث خزيمة كما يعرفه المحدثون والذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته تعادل شهادة رجلين ولو لم يكن قد عاين القضية ورأى الدليل، وإنما التصديق الأول قد كان كفيلا بضمان التصديق الثاني.
ثانيا: الشيخ جمال الدين والمؤهلات الكاملة لضمان الاستمرارية
1) لكل شيخ بل أي كائن بشري خصائصه الذاتية ومبرراته الموضوعية،ولا يمكن في هذا الوجود أن تتشابه شخصية مع أخرى على شكل الاستنساخ ،بل ولو على مستوى جزئي جوهري محدود،نظير البصمات والنظرات والابتسامات.ومع هذا فقد يكون هناك قاسم مشترك يضبط المؤهلات ويحدد التخصصات وركائز الاستمرارية.
والتصوف في حد ذاته يرفض هذا التقليد والتراتبية وإلا فقد يصبح مصطنعا ومتكلفا ،وهذا من أفسد الأمور حينما يسود التقليد في عالم التحقيق والمعرفة القائمة على مبادئ تربوية كالمحاسبة والمراقبة والرياضة والمجاهدة.إذ الصوفي ابن وقته وهو أستاذ زمانه وأهله.
والشيخ جمال الدين، بهذا المعنى والمبنى، قد يختلف في تكوينه الظاهري عن شخصية والده الشيخ حمزة رحمه الله،ويباينه شكلا وأسلوبا في قامته وحركاته وطريقة كلامه،ولكنه مع هذا قد يتحد معه في سره وتوجهه،ومشربه ومورده.والولد سر أبيه كما في الأثر:”وورث سليمان داوود”وليس أن سليمان هو عين داوود بالرغم من اتحادهما في سر النبوة والرسالة والفضل والخصوصية .
ولقد كان الشيخ حمزة يقول دائما ،ومنذ ريعان عمر ابنه جمال الدين ،بأن “الذي عندي عنده” أي لابني نفس المستوى المعرفي والرسوخ والعمق الروحي مما أحظى به رغم أنني أنا الشيخ والراعي لكل من هو داخل الطريقة بمن فيهم ابنه جمال هذا.
ولم يكن هذا الكلام اعتباطيا أو عاطفيا أبويا محضا وإنما هو حقيقة ملموسة قد كان يدركها بعض المريدين دون البعض ،حتى إن كثيرا منهم ممن كان يزور الشيخ حمزة فيخرج من عنده ثم يلتقي بابنه جمال فيجد لديه نفس الحديث بحروفه ومعانيه مما كان قد دار بينهم وبين شيخهم الأب ،وقد يقع العكس بحيث يسبق أن يزور المريدون السيد جمال الدين قبل زيارة والده فيخاطبهم الشيخ حمزة بنفس الكلام الذي خاطبهم به ابنه جمال فيتساءلون متعجبين عن هذا التوافق الحاصل بين الخطابين على غير اتفاق ولا تنسيق أو تدبيرمسبق !!! فكان هذا الأمر شبه مجمع عليه بين المريدين الشيء الذي كان يزيدهم حبا وتقديرا لابن الشيخ واعتباره نسخة مطابقة لوالده في باب المعرفة والسر،إذ حيثما وجد السيد جمال الدين فكأنما هناك الشيخ حمزة حاضرا بالهمة والحال والمقال.
هذا الإدراك قد كان مرسخا لمبدأ الاستمرارية في الطريقة عند المريدين المخلصين منذ زمن بعيد ولم يساور أحدهم شك في أن السيد جمال الدين هو من سيكون الخليفة المباشر لوالده في تقلد المشيخة بالوراثة والاستحقاق.
ومع هذا المكسب المسبق لديه فإنه قد كان دائما يميل إلى التستر والتواضع ،الذي ما بعده من تواضع ،والبساطة المطلقة وعدم التقدم في المجالس بالرغم من كفاءته العلمية وكثرة مطالعته للكتب باعتباره باحثا جامعيا وحاصلا على درجة الدكتوراه الشرعية من دار الحديث الحسنية .
فلم يرد أنه ارتقى يوما منصة أو تزاحم مع المتزاحمين في ندوة أو مهرجانات استعراضية حتى ولو كانت أنشطة خاصة بالطريقة ،بل كان يكتفي بمختصر الكلام ووجيزه ووجيهه مع ابتسامة جذابة ورمزية قد تترك الأثر المباشر فيمن يراه فيحبه ويقدره رغم أنفه،كما لم يؤثر عنه أنه دخل في جدال عقيم أو مشاكسة مذهبية ومواجهات جافة مع الآخرين سواء أكانوا أعداء أم أصدقاء.
فالرجل ليس له الوقت لمثل هذا اللّجاج والتحدي الحائطي ،وإنما قد كان وما يزال يراهن على الاستمرارية وعلى كسب القلوب لتوجيهها إلى علام الغيوب بأبسط الوسائل وأجملها وأحلاها ،حتى إن مريدي بعض المدن قد كانوا يعشقون حلوله بينهم ويبذلون الغالي والنفيس في استقبال هذا الضيف الكريم الذي كان يدخل البهجة والسعادة على أهل كل بيت يقدم إليه.
2) هذا الرهان قد كان يؤسسه من داخله قبل خارجه وفي باطنه ثم ظاهره،وهو رهان صعب وعسير لا يمكن أن يصمد أمامه إلا كبار الرجال من ذوي الهمم العالية والصادق كل الصدق في حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،فكان من بين مظاهره تلك الأمراض المتتالية التي كان وما يزال يعاني منها ،ظاهرها فيه العذاب وباطنها به عين الرحمة ومختبر الكمال.
فقد يشكو أحدنا من علة بسيطة تؤرق مضجعه وتكلح ليله ونهاره ويشتاط غيضا وتضجرا عله يخلص منها في الحين ولو على حساب ورعه وعفته وهمته، وذلك لأننا ضعفاء أمام الألم ،نعشق بشريتنا الطينية وغريزتنا الحيوانية أكثر من الروحية فننزل مباشرة إلى الأسفل تماما كالقشر العائم بالطعم في الصنارة فوق الماء ،وذلك بمجرد جذبة بسيطة يفقد قدرته على الطفو ويهوي تبعا لمصدر الجذب ولو لم يكن بالقوي.
لكن حال الشيخ جمال الدين أرقى من هذا التصور وهذه الهمم المهينة ،لأنه يختلف في باطنه عن أهل زمانه في تمثل البلاء وتحدياته،وهذا كلام أسطره بالحال والمقال وأشهد عليه الله وملائكته والرجال،وذلك أنني كنت قد التقيت به مرة قبل فترة من وفاة والده الشيخ حمزة رحمه الله فلما سلمت عليه ،مبديا شفقتي على حاله الصحي، بقولي:”أرجو من الله أن يشفيكم يا سيدي ويذهب عنكم هذا البأس”فرد علي بنطق كالبرق”أنا باغي هذا (أي أنا من يطلب هذا الحال تطوعا)لأن هناك مقامات عند الله لا يمكن الوصول إليها إلا بهذا الأمر(يعني الابتلاء بأمراض معينة)”.
ياللروعة ويا لها من همة وأي مقام يحظى به هذا الرجل؟ !!! شعرت عند هذه الكلمات بالدهشة والحيرة والتعجب مع التقدير والتعظيم حتى اهتزت فرائصي واقشعر بدني .رجل يكابد الألم ويذوق مرارته ومع ذلك يفضل استمراره على التخلص منه حالا أو الركون إلى السلامة والراحة،كل ذلك لكي يتقرب إلى الله تعالى ويجتاز امتحان المحبة والعشق والهيام في حضرته، طالبا بذلك الكمال والاستقامة على مبدأ العبودية والخضوع لجلال الله وجماله. في حين، ومراعاة للشريعة فقد يأخذ بالأسباب ويجري الفحوص ويتناول الأدوية شأنه شأن المرضى مثله في ظاهره.
هذا الكلام قد كان بالنسبة إلي اختبارا حقيقيا وومضة مشرقة أضاءت لي جزء يسيرا من حقيقة شخصية الشيخ جمال الدين ،كما جعلتني أنظر إليه بعين التقدير زيادة على ما كان قبل،وفي حين أعطتني درسا قويا في باب المحبة الصوفية الراقية، تذكرت حينها قصة سمنون المحب الذي كان قد ادعى المحبة المطلقة حتى دخله الزهو بأن طلب من الله تعالى أن يبتليه بما شاء ولا يبالي،فلما حل به البلاء ،وكان احتباس البول وعسره ،خرج يطوف في الأزقة ويجمع حوله الصبيان قائلا لهم”ادعوا لعمكم الكذاب”والقصة معروفة.
كما أن موقف الشيخ جمال هذا هو ذو أصول شرعي في باب المحبة الإلهية والنبوية حيث إن الطلب عندها غالي وله ثمن. (يروى أن رجلاً قال يا رسول الله إني أحبك فقال – صلّى الله عليه وسلم – استعد للفقر فقال إني أحب الله فقال استعد للبلاء).والحديث له أوجه متعددة في الصيغة و التخريج.
إن صاحب هذه الهمة العالية ،تطوعا وإرادة، كفيل بأن يضمن الاستمرارية للطريقة القادرية البودشيشية ،ليس لمجرد أن له شخصية كاريزمية أو غير كاريزمية ،كما قد يلوك هذا المصطلح بعض الأرضيين المسطَّحين عند تقويم الأشخاص العاديين وتحديد أدوارهم وتأثيراتهم النفسية والاجتماعية، ولكنه عبد متعلق بربه فان في حبه عاشق لنبيه ورسوله صادق في حركاته وسكناته لا يهمه الاستقطاب وجلب الأنظار إليه بالتصنع والتكلف ولعب الأدوار .
بل سمته البساطة والتواضع وجمال النظرة والإشارة ،لين كل الليونة ولكنه لا يعصر ،متبصر كل التبصر لحد أنه صعب التجاوز بسهولة من طرف المراوغين والأرعنين بحيث لا تفوته ألاعيبهم وانتهازيتهم ،ومع ذلك فقد يبدي لهم حسن الحديث ورحابة الترحاب عله ينقذ من يمكن إنقاذه ويوجه إلى الله من له حظ في السعادة بهذه الطريقة،سعادة القلوب والأرواح ودوام المسرات والأفراح.
إن استمرارية الطريقة مع الشيخ جمال الدين بن حمزة القادري بودشيش شيء مؤكد وثابت بالوراثة والاستحقاق ،كما أنه قد يعد صمام أمان واطمئنان لهذا الوطن وموالاة صادقة وناصحة وخالصةللملك محمد السادس رمز وحدته واستقراره، وإشعاعا شاملا على الأمة جمعاء وعى البعض أم لم يع بالأمر.
فبقدر وجود أهل الذكر المتصل السند ببلد بقدر ما كان الاستقرار أقرب إليه وأحرى لأنهم أهل الفضل وصاحبه :”إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة”.
وهذا ذوق شخصي لا ألزم به أحدا ولكن يمكن تقريب مفهومه بمعنى الإنارة وإضاءة الطريق لمن لا يمتلكها طالما أنه كان قريبا من مصدرها.ولله المثل الأعلى وهو ولي الهداية.