خطاب صاحب الجلالة الملك اثناء حفل استقبال قداسة البابا فرانسيس جاء مفعما بالأمل والتسامح ، وبالإضافة الى روعة الكلمات ودقة المعنى ،وبلاغة الأسلوب وتنوع اللغات والتركيز على التربية ونبذ الكراهية والجهل ، فانه رسالة لكل من يتقوقع وينتصر لأحادية اللغة ويتعصب لها، بدل الانفتاح على اللغات الذي يعتبر انفتاحا على حضارات العالم ، وثقافات الكون ، ومد الجسور مع الغير سواء تعلق الامر بعالم السياسة او الاعمال و الاقتصاد والاستثمار او التكنولوجيا ، لأن من يتقن اللغات باستطاعته إقناع المخاطبين والمتحاورين ، ويتمكن من جلب المعرفة والخبرة والاستثمار، لان كل لغة إنما هي نافذة على حضارة من الحضارات وموروث الانسانية والثقافات ،وتمكن من التحاور والاستفادة من التجارب ،ولما نتقن لغة من اللغات نطلع على حضارة امتها وعلمها وأدبها ومعرفتها وتكنولوجياتها وتنظيماتها السياسية ، بعيدا عما يمكن ان يدعيه البعض من ان تعلم اللغات وتدريس المواد سواء العلمية او الأدبية بلغات غير اللغة الرسمية هو استمرار للاستعمار ، اللغة اداة للتواصل ، اداة لابرام صفقات تجارية ، اداة للتفاهم ، للاختراع ، ومد الجسور وتبادل الرأي ، واذا كانت قوة الصين وكوريا والهند واليابان وسنغافورة ليست محل جدال فان هذه الدول المصنعة التي تمكنت من اكتساب العلم والمعرفةواصبحت رائدة في عالم التكنولوجيا إنما استعملت اللغات الحية على رأسها الانجليزية دونما تفريط او إهمال للغاتها الأصلية طبعا ،وتلك مسألة بديهية لان الشعوب تتشبت بهوياتها ، واذا كان هاجس الانسانية هو توفير العيش الكريم لبني البشر عن طريق التنمية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية فانه بغض النظر عن توفر البلدان على الثروات الطبيعية فانه يتم النضال من اجل تفادي الحروب والانفتاح على الاخر والتآزر والتآخي ، ونسيان مآسي التشتت والتطاحن وويلات الحرب ومخلفاتها ، واذا كان التاريخ يسجل ازدهار الامم وتقهقرها ، فان من سره الزمن امس قد ينقلب عليه في أزمان اخرى على حد تعبير الشاعر الأندلسي ابي البقاء الرندي ،واذا كان الازدهار قد سر بعض الدول والحضارات والحقب ، فان التغيرات الجذرية من قارة الى اخرى عبر القرون والأجيال و التحولات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، مسألة ثابتة و تاريخ الانسانية يشهد على ازدهار امم في حقب معينة ، وتقهقر اخرى ، الحضارة اليونانية القديمة مثلا لا علاقة لها بيونان العصر الحديث ، ومع ذلك فان فكر الفلاسفة اليونانيين ألهم الفكر الانساني ، لذلك ما دامت الحضارة هي موروث كوني وان لغات العالم هي اداة للتواصل وموروث انساني رغم الاختلاف ، فان مسالة الانفتاح لا يمكنها ان تؤدي الا الى التآخي والتواصل وتبادل التجارب والإبداع الفكري والفني والتكنولوجي ،خصوصا اذا علمنا ان العالم الرقمي واستعمال التكنولوجيا غزا العالم ولا يمكن ان نبقى معزولين عن تطور البلدان والشعوب ونتجاهل ما للغات حية من دور محوري في الكسب المعرفي والتواصل ،لذلك لماذا نحاول ان نحرم ابناءنا وسياسيينا المستقبليين ورجال اعمالنا من هذه القيمة المضافة ونحن نعلم جيدا انهم اذا توجهوا الى الخارج او ظلوا منغلقين على أنفسهم طبقا للتعصب و لأحادية لغوية ،فانه يستحيل عليهم التواصل والإقناع و تطوير الفكر العلمي والمعرفي وتحقيق ما تصبو اليه الشعوب من رفاهية وتحقيق العيش الكريم ، مع العلم ان اللغات المنصوص عليها دستوريا محفوظة الموقع وليست محل نقاش وان اللغة العربية هي لغة القران وان ديننا الاسلامي من ثوابت الأمة وليس لاي كان ان يهمشها او يتخلى عنها ، ولكن ليس هناك ما يمنع من تعلم اللغات الأجنبية الحية والانفتاح عليها ،و استحضار ذكاء الشعوب الذين انفتحوا على لغات مكنتهم من تطوير القدرات و توفير العيش الكريم ، خصوصا اذا عاينا ما نؤاخذ عليه الناشئة من تيه و أزمة هوياتية وفوضى الأفكار ورفض ثقافة التعدد ، وركود و انغلاق وتقوقع وجهل مضر بالفرد ومحيطه ،وانتقادات واهية ، وصب الغضب على البشر والحجر والشجر واحتراف الاحتجاج ، وتعصب بدل تقوية لحمة الوطن واستثمار الطاقات في المعارك النبيلة ، وقد جاء في الخطاب الملكي السامي ” الحل لن يكون عسكريا ولا ماليا بل الحل يكمن في شيء واحد هو : التربية ”
سليمة فراجي – برلمانية سابقة – محامية