و.م.ع بقلم: سمير بنحطة
اعتادت السيدة سعاد، وهي امرأة خمسينية من منطقة زكزل في ضواحي بركان، أن تستيقظ مع تباشير الصباح الأولى كل يوم. وشأن نساء القرى النشيطات، تنهي مشاغل البيت ثم تشمر عن ساعد الجد نحو عملها الآخر، الشاق والممتع في آن.
بحنو واضح، تمسح على رأس عجل صغير كأنها تناغي طفلا رضيعا، ثم لا يمنعها دفء اللحظة من تشذيب المكان حيث تربض الأبقار والعجول منتظرة إطلالة هذه المرأة، مع ما تعنيه زيارتها الصباحية من ماء وكلأ وعاطفة.
تقيم سعاد الهواري بمنطقة تدعى اسليمانية في زكزل، البلدة الساحرة بجمال غاباتها وتضاريسها وتاريخها العائد إلى بدايات البشرية على الأرض. في هذا المكان، قررت أسرة سعاد أن تخوض تجربة بدأت “من تحت الصفر” ثم صارت، مع توالي السنين، شيئا مذكورا.
يدا في يد، مضت هذه الأسرة في مشروعها الاقتصادي تصنع نجاحها الخاص، وفق تقسيم منضبط للمسؤوليات بين الأبناء والوالدين. ثم امتدت الأقدام خطوة إلى الأمام، فقررت الأم إنشاء تعاونية لتربية المواشي رفقة خمس نساء قرويات، استثمرت في الإمكانيات الفلاحية الهائلة لهذه المنطقة الجميلة.
وتختزل سعاد مفاتيح النجاح لهذا المشروع الذي بدأ بحلم عائلي صغير، في كلمتين هما الجهد والشغف: “عندما تسعى بجهد المقل، شغوفا بما تحب، تشعر بلذة الإنجاز.. برغم كل الصعاب التي اجتزتها في الطريق إلى تحقيق حلمك”.
والأرض – عند هذه الفلاحة – لا تروى بالماء فقط. إنها تسقى، قبل ذلك، بدفق العاطفة. حين تعطيها من مشاعرك تمنحك من خيراتها. ذاك هو السر.. ولأن هذه السيدة أم لثلاثة أطفال، فقد أضفت عواطف أمومتها على الزرع والنبات وصغار العجول والأغنام.
إن الأمر أشبه بالعلاقة الوجدانية التي تقفز على المنطق التجاري الصرف. تقول السيدة فاطمة الزهراء لمباركي، وهي فلاحة خمسينية تشتغل في إنتاج الحوامض ببركان، “المعنى الإنساني” هو ما يميز عمل المرأة في مجال الفلاحة. وهي حين تحلب البقرة، مثلا، تفعل ذلك بليونة بالغة. إنها مشاعر إنسانية دافئة مودعة في قلوب الفلاحات بقوة الحياة نفسها.
جيل جديد
والفلاحة قرينة الصبر، لأن البذرة لا تزرع اليوم فتصير في الغد شجرة وارفة الظلال. لذلك تنجح النساء، كما ترى السيدة فاطمة الزهراء، في مجال الفلاحة في أغلب الأحيان. ويبدو أن هذه الخصيصة، بوصفها عاملا حاسما في صناعة النجاح، تساعد كثيرا من النساء – وهن كائنات صبورات بالسجية – على ولوج هذا المجال الصعب وتحقيق ذواتهن في الزراعة كما في تربية المواشي.
ولا تخطئ عين الملاحظ أن جيلا جديدا من الفلاحات البركانيات بات يقتحم العمل في مجال مهني كان إلى عهد قريب حكرا على الرجال. في هذه المدينة الفلاحية، التقت وكالة المغرب العربي للأنباء بفلاحات من مختلف الأعمار. كان لافتا أن الكثيرات منهن يشتغلن في الوسط القروي، بضواحي المدينة. لكن الملمح الموحد لكل هذه الشخصيات هو إرادتها الراسخة في إثبات الذات وتحقيق التميز.
شيماء لشهب، مثلا – وهي شابة مجازة في الأدب الإنجليزي – اختارت أن تختط لنفسها طريقا بعيدا عن النقد واللسانيات ومسرحيات شكسبير، لتندفع نحو شغف خاص رسخته بيئة فلاحية حاضنة في منطقة العثامنة.
تقول شيماء إنها قررت، رفقة مجموعة من شباب المنطقة، تأسيس تعاونية لإنتاج العسل، “لأن العمل لا يأتي بل نحن من نذهب إليه”. وضع هؤلاء الشباب، وهم حاصلون على شهادات تتوزع بين تخصصات الأدب الفرنسي والقانون والفلاحة، غاية واضحة نصب الأعين: الاندماج في سوق العمل.
وشأن البذرة التي تمكث في الأرض زمنها المعلوم قبل أن تنفع الناس، يرعى هؤلاء الشباب نبتهم الذي بات ينمو – كل يوم – ويستوي على سوقه. والهدف: دخل قار يفتح الأفق واسعا نحو مزيد من النجاح.
ومثل شيماء، اندمجت مريم حاجي، الشابة العشرينية التي فتحت عينيها في منطقة زكزل وسط حقول فاكهة الزعرور، في تعاونية تعنى بتثمين هذه الفاكهة، بعد رحلة جامعية قادتها إلى الحصول على الإجازة في شعبة الدراسات الإسلامية.
قصة نجاح
إن الأمر يتعلق – على الأرجح – بقصة نجاح مثيرة للانتباه تنسج فصولها نساء رائدات. وعلى الرغم من التلازم بين المشقة والاشتغال في المجال الفلاحي، بسبب الحاجة إلى العمل البدني المرهق في بعض الأحيان، فإن ذلك لم يمنع هؤلاء النساء البركانيات من خوض غمار التجربة.
“كانت النساء تشتغلن – على الدوام – في ميدان الفلاحة. كن في الظل.. واليوم خرجن إلى الشمس، يبحثن عن موطئ قدم”، تقول السيدة اسمهان الناصيري، الفاعلة في مجال تثمين زيت الزيتون بتزاياست في ضواحي أكليم.
ويبدو أن المساحة المتاحة أمام هؤلاء النساء تتسع يوما بعد يوم، وسط تزايد أشكال الدعم التي يتيحها قطاع الفلاحة. وهو مجهود لافت، يبذل على أكثر من صعيد لتسريع تطور قطاع واعد، باتت الفلاحات فاعلا أساسيا في تنميته.
إن غاية هؤلاء النساء هي الإسهام في إنعاش السوق الوطنية وتجويد المنتوج الفلاحي. وهذا هدف كبير تتضافر الجهود من أجل تحقيقه، كما تؤكد رئيسة الجمعية الجهوية للمرأة الفلاحة بالجهة الشرقية وفاء قيراط.
وتنسق هذه الجمعية، التي تضم بين صفوفها فلاحات من أقاليم جهة الشرق، مع الجهات المختصة في قطاع الفلاحة من أجل تنظيم دورات تكوينية تتوخى تقريب هؤلاء النساء من آخر تقنيات تجويد المنتوج.
تقول السيدة وفاء، التي تنشط في قطاع الحوامض وهي الخبيرة في مجال البستنة، “نسعى إلى مواكبة الفلاحات ومساعدتهن على تأسيس مشاريع مدرة للدخل. وهدفنا: تحسين ظروف عيشهن”.
لكن الطموح الأكبر لهذه الجمعية هو دعم الفلاحات من أجل تسويق منتوجهن في المغرب وخارجه. ولعلها غاية منشودة لا تلبث أن تدركها همة النساء.. بشيء من الصبر وكثير من الإرادة والأمل.