في رثاء العلامة عبد الله المرابط الترغي

11 يونيو 2015آخر تحديث :
في رثاء العلامة عبد الله المرابط الترغي

1.
عندما كتبت ذات مرة بأني: “لا أدري كيف يتعامل الناس مع مقولة “من علمني حرفا صرت له عبدا” التي تبدو اليوم غارقة في التقليدانية، وفي أحسن الأحوال تُذكِّر بعهد جميل مضى وانقضى، وتُذْكَرُ في لحظات الاسترجاع النوستالجية. لكني حقيقة وصدقا أجد في نفسي احتراما مهيبا للمقولة ولمن سكَّها، فأنا أفهمها وأعيها وأتذوقها بنَفسٍ غارق في الصوفية”. كنت حينها أفكر في الكثير من معلمي وأساتذتي وأصدقائي. وبدون مبالغة، فقد كان أستاذي عبد الله المرابط الترغي في طليعة هؤلاء.
تعرفت على العلامة عبد الله المرابط الترغي رحمه الله بشكل شخصي متأخرا بداية السنة الأخيرة من دراستي الجامعية، حيث درّسني مادة علمية تحت مسمى “الأدب المغربي على عهد الدولة العلوية”، فوجدت فيه نِعم “المعلم”: أدبا وأخلاقا وعلما.
وأتذكر أنّي خرجت، ومنذ الحصة الأولى، بانطباع حسن عنه، فذهبت أبحث عن كتبه وتحقيقاته. ولأني يومها كنت مغرما بكتب التراجم والمناقب والرجال، فقد شغفت بِجُلّ أعماله، وخاصة “فهارس علماء المغرب”.
مباشرة بعد ذلك، وخلال الحصة الثانية، حبّب إليّ وبشكل كبير عَلَما من أعلام المغرب الكبار؛ وأقصد به الحسن اليوسي، وما زال يتردد في ذهني بيت شعري في مدحه ألقاه علينا حينها يقول: من فاته الحسن البصري يصحبه / فليصحب الحسن اليوسي يكفيه. وكذلك دعاء شيخه له محمد بن ناصر الدرعي حين قال:” اللهم اجعله عينا يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب”. ولا تسل عن فرحتي الكبيرة بهذا الرجل وأعماله. وأتذكر يومها أني قرأت كل ما وجدته بقلمه أو دراسة عنه، وأكثر ما شغفني كتابه الموسوم ب”المحاضرات”، وكذا رسائله التي جمعتها المحققة فاطمة القبلي، وخاصة رسالتيه السياسيتين المعنونتين ب”براءة اليوسي” و”جواب الكتاب”. وهذا ما دفعني للبحث في مغرب السابع عشر، وكذا في كل ما له علاقة بزاوية الدّلاء.
وهو نفسه رحمه الله من عرّفني على الكتاب التحفة؛ رحلة أبي سالم العياشي المسماة ب”ماء الموائد”، والتي قضيت في صحبتها والاستمتاع بها أياما وليالي، رغم صعوبة تلاوتها، لأنها كانت ما تزال مطبوعة على الحجر فقط. وهل يمكن أن أنسى مفتتح الرحلة الذي يقول:” الحمد لله الذي قرن ممدوح السفر بممدوح الظفر”.
وإليه يعود الفضل في قراءتي لكتب عديدة جدا من قبيل:” التصور والتصديق في أخبار سيدي أحمد بن صديق” و”أنس الفقير وعز الحقير” و”صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر”، وأجزاء من “النعيم المقيم”… والكثير من المقالات المتخصصة في مجال “الفهرسة” و”الكنانيش” و”التراجم”.
بعد ذلك بسنة، وعندما تقدمت لاجتياز المباراة الشفوية لولوج ما كان يسمى حينها ب”السلك الثالث”، وجدته قبالتي رئيسا للجنة. أمسك ببحثي الجامعي، وتصفحه، ثم علت محياه ابتسامة صغيرة، عرفت حينها أنه كان يقرأ الإهداء الذي بدأته ب” إلى أصحاب الجلال والجمال”، أما عندما قلّب الصفحة وبدأ يقرأ إهداء خاصا لصديق خاص أقول فيه:” إلى صديقي… المتشوف أخيرا إلى رجال التصوف. الباحث حديثا في شجرة الأحوال والمعارف. إلى الصديق عبد السلام… المقصد شريف والمنزع لطيف”، فلم يتمالك نفسه وعلّق بما مفاده “أني محبٌّ للقوم”، ولكن كل هذا لم يشفع لي لاجتياز تلك المباراة لأن بحثي كان بعيدا عن مجال الوحدة التي ستشتغل على “الأدب المغربي”، لقد كان حول “تصور طه عبد الرحمن للتراث”.
انقطعت صلة التلمذة بعد ذلك، لأني انتقلت بعدها إلى مجالات معرفية أخرى، وتباعدت مجالستي له إلا لماما، ولكن لم أتوقف أبدا عن متابعة تحقيقاته ومحاضراته.
وها نحن اليوم نرثيه، ومعه نرثي ونودع أشياء جميلة في حياتنا المعرفية.
2.
نحن الآن عند مغرب يومه السبت 18 شعبان 1436 الموافق ل 6 يونيو 2015، والمكان وسط مدينة طنجة، عندما اتصل بي تلميذه النجيب صديقي الأستاذ عبد السلام المنصوري ليخبرني بأن أستاذنا عبد الله المرابط الترغي في ذمة الله. لم أفاجأ كثيرا، لأن الأخبار كانت تتوارد ب”قرب أجله” بسبب المرض الشديد الذي أنهكه.
وأول ما تبادر إلى ذهني حينها توفيق الله تعالى له بأن يَهَبَ مكتبته العامرة ويوقفها على طلاب العلم والمعرفة صدقة جارية ينتفع بها حيث ينقطع العمل، وقد وقّع على ذلك يومه الإثنين 25 ماي 2015 لتنضاف لمكتبة السيد عبد الله كنون رحمهما الله تعالى.
ولكن مفاجأتي كانت يوم الغد، ظهر الأحد، عندما شيّعناه لمثواه الأخير، ولعمري إنها لمفخرة له؛ أن يتغيّب عن جنازته كل ما يمُتُّ إلى “الرسميات”؛ فلم يحضر أيٌّ من مسؤولي المدينة: السياسيين أو”الدينيين”!! ولكن القلب ينفطر لملاحظة نوع الاحتفال والاحتفاء الذي يلاقيه بعض الصغار المحسوبين على الفن والعلم والأدب … من قِبل السلطة، بينما يُهمَّش الكبار: أحياءً وأمواتا.
لقد حضر جميع محبي العلاّمة وتلامذته من رجال الفكر والأدب والثقافة والإعلام، وغابت السلطة، فهنيئا له بهذا الاستثناء.
لكن يبقى من حقنا أن نتساءل حول السر الذي يوجد وراء هذا الغياب المقصود؟ وهو الغياب الذي لمسه كلّ محبيه في فترة المعاناة مع المرض، ومع أطباء وممرضات بعض المستشفيات الخاصة بطنجة، الذين لم يحترموا علمه ولا شيبته، فكانت له معهم للأسف مواقف مؤلمة.
لقد عانى وحيدا، أو كالوحيد، هو وزوجته الوفية الحاجة خديجة، إلا من تعاطف واهتمام من بعض الخُلَّص من أصدقائه وتلامذته، وعلى رأسهم الأستاذ عبد اللطيف شهبون والأستاذ محمد القاضي والأستاذ عبد السلام شقور الذي نسي معاناته وانخرط في معاناة أخيه، فكان نعم السند له بعد الله تعالى، دون أن ننسى تلميذه النجيب عمر الحاجي.
ترى هل هذا يعود لأصوله البدوية؛ فهو ابن ترغة؟ هل لأنه اختار طنجة سكنا، المدينة التي أصبحت تتمنّع على العلم والعلماء وتسير في ركب المال والأعمال؟ لكن يبقى أقرب القول عندي أنه لمّا آثر البحث العلمي الحر، ومعايشة المخطوطات، وإحياء التراث، لم تر فيه السلطة أكثر من باحث لم ينفعها منفعة مباشرة، مع أنه أفنى عمره في خدمة العصر العلوي فكريا.
حقيقة، لم أعرف عن سيدي عبد الله خوضا في نوع من السياسة التي تغضب السلطة، ولا تنكرا لما يسمى ب “الثوابت الوطنية”؛ فقد خدم حضارة بلاده خدمة منقطعة النظير، وحصل على جوائز في هذا المجال، ولم أعهده إلا من أهل عقد الأشعري، وفقه مالك، وطريقة الجنيد السالك، ومن ثمّ فسؤالنا هذا مشروع… فلماذا؟
3.
عند عودتي إلى البيت فتحت العدد 353 من مجلة “دعوة الحق” لأقرأ له موضوعا حول “ذكريات الجهاد على عهد الدولة العلوية: فتح طنجة عام 1095 ه في التاريخ والأدب”، والذي يبدؤه بالتأكيد على أن “لكل أمة ذكرياتها الوطنية التي تعتز بها وتعمل على استرجاع مواعيدها، فتجعل منها أعيادا وطنية تحتفل بذكراها، وتستحضر العبرة من إجرائها في ذلك، لتزداد شخصية الأمة تماسكا وحضورا في صنع تاريخها ومسيرتها.وأهم هذه الذكريات هي التي تكون الأمة قد حققت فيه إنجازا وطنيا كبيرا، تقوم به وحدة الأمة في العقيدة والوطن والسياسة”.
ونحن ننسج على هذا المنوال قائلين: بأن لكل أمة رجالاتها الذين ينبغي أن تعتز بهم وتفتخر بإنجازاتهم وتعمل على استرجاع مواعيدهم فتجعل منها أعيادا تحتفل بذكراها، ومنهم بدون أدنى شك فقيدنا المحقق المدقق، ولكن هيهات في وطن يُكرِّم مسؤولوه راقصات من كلّ بقاع الأرض ويُحتفى بهن، بينما يهان العلم والثقافة وكل فعل جادّ، ويودِّع الرجالُ عالمَنا في صمت كمجهولين.
فرحمة الله عليه، وأسكنه فسيح جنانه، وهنيئا له وسعدى؛ فقد ترك صدقة جارية عظيمة “تخدم عليه”: تلاميذ وكتبا.
و”لله الأمر من قبل ومن بعد”، كما كان يختم الحسن اليوسي كل فصول كتبه.
عبد الهادي المهادي

الاخبار العاجلة