صدح ذات يوم الفيلسوف رينان في خطاب الأكاديمية أن الوطن يتكون من الموتى الذين أسسوه ومن الأحياء الذين يستمر بهم، ومن بين أولئك الذين استمر بهم هذا الوطن المفكر والوزير والمستشار الملكي محمد علال سي ناصر، فهو شخصية فذة أنجبتها مدينة وجدة وظلت معطاءة متوهجة كلما ذكرت الثقافة المغربية ومقوماتها، كان هم السي علال وشغله الشاغل هو ربط قطاع الثقافة بمشروع التنمية، وظل يؤرقه الهاجس الحضاري في نظرته إلى المسألة الثقافية، عبر ربطها بالتعليم المنتج الذي ينمي قدرات الابتكار، لذلك سينعت بصاحب المشروع الفكري المتميز، ألف عدة كتب ومؤلفات ودراسات، قام بمبادرات وازنة للتقريب بين الثقافات والحضارات من خلال لقاءات ومؤتمرات دولية كان يصر على أن يدعو إليها نخبة من المفكرين والفلاسفة والمتخصصين سواء من الغرب أو من العالم العربي والإسلامي، كما تنتسب إليه مبادرات جريئة كانت تروم إبراز حضور الثقافة الإسلامية وتأثيراتها في الحضارات الإنسانية وكذا تشبثه بإثبات حق العلماء المسلمين في الجهد الفكري الإنساني، وذلك للرد على سكوت الغرب عن هذه الجهود وكانت الأهداف البعيدة للمفكر سيناصر هي إحقاق حق الفكر العربي الإسلامي في النهضة الغربية وحضارة اليوم.
عندما فتح علال سي ناصر عينيه على هذه الدنيا كان غبار الوطنية والسياسة قد ملأ قدر هذا الرجل، فوالده كان المسؤول عن حزب الاستقلال بوجدة في فترة عصيبة من فترات الاستعمار الفرنسي، مكنه هذا الانتماء من التعرف على شخصيات وطنية في المقاومة والسياسة والنضال، أمثال علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني وغيرهما. كما ارتفعت بالسي علال التربية الدينية وانتسابه للمدارس الوطنية بوجدة إلى تكامل مغربي تجمع بين النضال والمدرسة الوطنية والمدرسة الفرنسية والمسجد، وربما تكمن شعرية الحياة ومادتها البلاغية في وجود بعض الانسجامات الحادة في المسار الفردي للناس. يقول علال سي ناصر: ” .. لما عاد المرحوم محمد بلحسن الوزاني من فرنسا أصدر مجلة تحمل عنوان «عمل الشعب»، ولما اطلع والدي عليها بعث برسالة إلى الوزاني يطلب فيها لقاءه، وكان وقتها منزعجا ومتأثرا باتفاقية الاستسلام التي وقعها أخ أمير الريف عبد الكريم الخطابي، باسم أخيه، في وجدة بمقر المسؤول الفرنسي، هذا الاستسلام الذي فُرض على المغاربة فرضا؛ فحدد له المرحوم الوزاني موعدا معه بمقهى «لارونيسونس» بفاس، فسافر إليه والدي في الموعد المحدد.. وهناك، انتظره في المقهى طويلا، وحينما يئس من وصوله تأهب للانصراف. وفي تلك الأثناء تقدم إليه شاب يرتدي جلبابا صوفيا ريفيا، وسأله: هل أنت محمد بناصر الذي ينتظر السيد الوزاني؟ فأجابه والدي بالإيجاب، فرد عليه السائل قائلا: أنا علال الفاسي، وقد أرسلني إليك السيد الوزاني لأنه لم يتمكن من استقبالك بنفسه؛ ثم دعاه إلى مرافقته من أجل مقابلة الوزاني. وهكذا التقى والدي بالزعيم علال الفاسي أول مرة، وتلك كانت بداية العلاقة بين الوالد، رحمه الله، والزعيم المرحوم علال الفاسي. ومن بين ما تحدث فيه والدي مع المرحوم بلحسن الوزاني في ذلك اللقاء المستجدات التي كانت تعرفها الساحة الوطنية، وكذا واقع الحزب.”
المؤكد أن علال سي ناصر يعتبر أحد الشهود على مرحلة مهمة من تاريخ المقاومة الوطنية بوجدة والمغرب، ويذكر رموزها على الصعيد المحلي من بينهم بن دالي ومحمد بن تاهيلة واحجيرة الجد والحاج أحمد بلحبيب، ومن بين ما زال يحتفظ به بكل الوضوح زيارة علال الفاسي إلى مدينة وجدة وخصوصا حينما طلب من والد السي علال مصاحبته لزيارة ضريح سيدي يحيى فرد عليه الوالد ” نحن سلفيون ولا علاقة لنا بالأضرحة فأجابه علال الفاسي ” من اللازم أن نمارس السياسة ، فلا يمكن أن آتي إلى مدينة وجدة ولا يراني الوجديون أزور الضريح”
ولا زال يذكر بكل تواضع أساتذته ومعلميه والمدارس التي تنقل فيها بوجدة حيث يذكر السي عبد السلام الوزاني، محمد الجندي سي محمد البرحيلي مولاي احمد الفيلالي والسي عبد الله الفيلالي، ويذكر معهد علوم الدين الذي أسسه جد علال سي ناصر ومدرسة السي الوزاني ومدرسة السي مصطفى المشرفي ومدرسة النجاح، وهي كلها مدارس وطنية تنسب في تأسيسها لوطنيين ومناضلين بحزب الاستقلال.
من الشهادات التي قدمها السي علال والتي أعتبرها مهمة وهي الرواية التي تحكي زيارة مفتش فاسي للمدرسة التي كان يتابع بها دراسته حيث قال: ” ما زلت أذكر زيارة المفتش عبد السلام الفاسي للمدرسة التي كنا ندرس بها فقد رغب في تقييم مستوى أحد التلاميذ فطلب منه أن يتقدم إلى السبورة ويرسم مستطيلا، فأحسن التلميذ رسمه، وعندها سأله: كم مساحته؟ وحين لاحظ أن التلميذ ارتبك بعض الشيء، طلب منه الجلوس في مقعده، ثم التفت إلى أخي الحبيب الذي كان جالسا في الصف الأول وأمره بحل المسألة، فقدم الإجابة الصحيحة عن السؤال فورا، فقال المفتش للأستاذ السي عبد الله الفيلالي: هذا التلميذ بلا شك فاسي الأصل، فأجابه بأن التلميذين الحبيب وعلال هما ابنا السي بناصر، المسؤول الحزبي في المنطقة. ”
بالنسبة للتربية على الثقافة والمطالعة والبحث،هناك طاقات مختلفة للترويض والإذعان بدء من حرص الوالد الذي لا يطلب برورا بدون مثابرة في الدراسة إلى ممارسة الفعل الثقافي في أحضان أسرة عرفت في وجدة بأنها عالمة، لذلك بدأت علاقته في وقت مبكر “بألف ليلة وليلة”، وكتاب للمنفلوطي أجبره والده على قراءته والبحث عن معاني المفردات التي لا يفهمها. ثم نضجت العلاقة مع رواية الحرب والسلم لتولستوي الذي قرأه بدون توقف خلال إجازة للعائلة في شاطئ السعيدية، أما ما بقي محفورا في ذاكرة سيناصر فهي كتب يوجين دوبريل الفيلسوف البلجيكي، وكتب كانت حول نقد العقل المجرد وانتهاء بكتب أمارتيا سين..
ولنقل إن سي ناصر المفكر يرعى التلميذ المثابر الذي كانه ومارس البطولة، وبهذا الشكل عاش الحياة الحقيقية لابن عائلة وطنية ومثقفة. ربى محمد علال سي ناصر قدره الخاص بعد أن رباه أبوه بنفس الاتجاه ونفس القيم، فبعد دراسته بوجدة انتقل إلى ثانوية مولاي يوسف بالرباط وواصل دراسته بباريس وألمانيا مما أهله لتدريس المنطق في جامعة السوربون، كجزء من تخصصه في الفلسفة والعلوم الإنسانية، لكن مرحلة رئاسته لقسم الفلسفة والعلوم الإنسانية باليونسكو منذ سنة 1975 ستمكنه من توصيفه كأبرز أعمدة هذه المنظمة العالمية، وفي هذه المحطة سيدعم فكرة اختيار فاس كمدينة للتراث الإنساني، بل إن شغفه بالموروث المشرقي في الحضارة الإسلامية، سيجعله في طليعة المدافعين عن الثقافة الإسلامية المنفتحة، فأسهم بجهد وافر خلال مروره بمنظمة «اليونسكو» في العمل على صون مدن ومآثر ومعالم. وأسعفه اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية أن يكون خير سفير للدفاع عن صورة حضارة، لطالما تعرضت لأصناف من الاضطهاد، حتى من طرف أبنائها. لقد توجه في هذه المحطة إلى الثقافة العربية والإسلامية بما نخاله يشبه تلك القولة الشهيرة لنابليون وهو يتوجه إلى جنده سنة 1789 وقد حملوا على مصر إذ قال: ” أيها الجنود لا تنسوا بأن أربعين قرنا تنظر إليكم من أعلى هذه الأهرامات ” فهذا المثقف المغربي يقر بأهمية الحضارة العربية والإسلامية كما طبعت عمقه الإنساني ونحتت على حجر صغره قيما سيذكرها ويتشبع بها ويدافع عنها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ومن ثم يمكن فهم دواعي تلك الانتفاضة التي عبر عنها في وجه دعاة اعتماد الدارجة في التدريس، فقد تساءل محمد علال سي ناصر في حوار صحفي عن علاقة عيوش بالتعليم. كما علق علال سي ناصر على حضور عدد من الشخصيات الوازنة للندوة التي نظمها عيوش لنفس الغرض بمن فيهم المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، واعتبر أن هذا الأمر “هو استغلال للسلطة من طرف عيوش ومن اتبعه لأن التعليم هو مسؤولية وليس مناقشات”. طوال هذا الحراك حول اعتماد الدارجة في التدريس سيكون الاسمنت المتماسك لعلال سي ناصر هو معرفته بالأجندة السياسية المحركة لمثل الخرجات، وتشبعه بدور اللغة العربية في استقرار المغرب، لذلك رد علال سي ناصر على محاولة اتهام اللغة العربية بكونها السبب في تراجع التعليم وقال بأن هذا الأمر “لا معنى له وهو هراء وفي الغالب من يقفون عند مثل هذه الأمور لا يفهمون المتطلبات الوطنية”، ووصف الهجوم على العربية ب”الخوار الذي لا معنى له ولن يؤدي إلى أية نتيجة وأنا متأكد – يقول السي ناصر – بأن الذين يتكلمون اليوم على اللغة الدارجة لا يعرفون الدارجة المعروفة بأشكال تعبيرية قوية خاصة بها”. قبل أن يصف كل الجدل الذي أثير حول مذكرة عيوش بكونها “ظاهرة عيوش ولكن منذ الاستعمار ونحن نعرف مثل هذه الظواهر التي تحاول التشويش على الناس منهم من قال بأن القرآن فيه أخطاء ومنهم من دعا إلى تبسيط اللغة واعتماد الدارجة”، لكن هذه الدعاوى وجدت من يقف لها بالمرصاد كبلعربي العلوي وغيره ممن اهتموا بتكوين الطلاب في جامعة القرويين التكوين الأدبي العربي. كما أن “الملوك العلويين – يضيف – حافظوا دائما على اللغة العربية وأصروا على وجود توازن بين اللغة العربية والفرنسية لأنهم يعرفون أن الكيان الأساسي للمغاربة هو العربية”. إن ما أسميناه سابقا ربط القطاع الثقافي بمشروع التنمية والهاجس الحضاري في نظرته إلى المسألة الثقافية الذي ظل يؤرقه عبر ربطها بالتعليم المنتج الذي ينمي قدرات الابتكار، هو ربما ما دفعه إلى عدم الانتظار كثيرا للرد على مطالب عيوش لكننا متيقنون أنه أيضا عبر كل المواطن المضيئة للسيرة الفنية للغة العربية سواء كان ذلك أثناء عهد الصبا والفتوة عندما تنقل بين المدارس الوطنية بوجدة لحفظ القرآن الكريم وتعلم النحو وتذوق الشعر العربي أو عبر الهم الذي كان يحمله للدفاع عن الثقافة العربية وهو يتقلد أكبر المسؤوليات بالمنظمة العالمية اليونسكو، وعن المرحلة الأولى يقول السيد علال نفسه ضمن شهادة له: ( … درست على يد سي عبد السلام الوزاني رفقة شقيقي المرحوم محمد الحبيب علوم الدين في المعهد الذي أسسه جدي، فكنا نحفظ القرآن وندرس النحو وباقي العلوم على الساعة الخامسة صباحا، وبعدها كنا نذهب إلى المدرسة الفرنسية لندرس هناك؛ وبعد إغلاق مدرسة سي الوزاني بسبب إقامتها لاحتفالات عيد العرش، حيث كان رئيس الناحية «برنيل» قد أمر بإغلاقها عن طريق باشا وجدة آنذاك، انتقلنا إلى مدرسة «الترقي»، وهي مدرسة وطنية كان مديرها هو محمد الجندي، الذي كان تاجرا في وجدة وكان ملتزما بنشاطه مع حزب الاستقلال. وفي هذه المدرسة، سمعت كلمة «ديمقراطية» لأول مرة باللغة العربية ضمن أبيات أذكر مطلعها فقط “يا منار الهدى لشعب تقدم.”
وفي هذه المدرسة حفظنا ما بقي علينا حفظه من القرآن الكريم أنا وأخي محمد الحبيب على يد الفقيه «سي محمد البرحيلي»،…فاضطررنا من جديد إلى الانتقال إلى مدرسة وطنية أخرى تسمى «النجاح»، كان يديرها مولاي أحمد الفيلالي وابن عمه السي عبد الله الفيلالي، وكلاهما أديبان متميزان ومن الأطر المهمة في الحزب. وفي هذه المدرسة حفظت المعلقات، وقد كان أخي الحبيب أكثر اهتماما بالفقه بينما كنت أنا أكثر اعتناء بالأدب، وكان السي عبد الله الفيلالي يشرح لنا كتاب «الحماسة» بدقة فائقة جعلتنا نتقن فنون النحو واللغة.) .
إن المتتبع لمسارات محمد علال سي ناصر لا يخطئ قطعا مرحلة تكليفه على رأس وزارة الثقافة في حكومات محمد كريم العمراني وعبد اللطيف الفلالي من 11 غشت 1992 إلى 31 يناير 1995، كان له الفضل خلال هذه المرحلة في تحريك المجالس العليا للثقافة التي حددت على عهده المعالم الكبرى في صياغة المشروع الثقافي الوطني في مجالات الكتاب والفنون والتراث، وأبدى انفتاحا أكبر على المثقفين والإعلاميين، وأضفى علال السي ناصر الوزير على المشروع الثقافي بعدا عصريا، إذ ينظر إلى المسألة الثقافية من زاوية أنها تعكس حركية المجتمع وتسري في بنياته التقليدية والعصرية، كما تتأثر بأنماط التطورات التكنولوجية والاكتشافات العلمية.
علال سي ناصر صاحب كتاب ( نظرات في تدبير الشأن الثقافي في المغرب ) وهو خلاصة لتجربة المؤلف في إدارة وتدبير الشأن الثقافي بالمغرب، استطاع خلال تقلده هذه المسؤولية أن يهتم بحماية الفكر المغربي من خلال الاهتمام بالعلماء والمفكرين المغاربة والدفاع عن الثقافة المغربية الأصيلة والعمل على دعم مكوناتها وروافدها المختلفة .
إحدى المحطات من حياة محمد علال سي ناصر التي لا تقابل بالاهتمام الكافي في دراسة مسارات المستشار الملكي سي ناصر، هي تلك التي اشتغل فيها في بداية سنوات الاستقلال كمحرر صحفي بالإذاعة الوطنية، ففي هذه المرحلة -كما ذكر الصحفي المغربي محمد الأشهب- سيجتمع عالم المستقبليات المرحوم المهدي المنجرة والمؤرخ المغربي الذي كتب عن تاريخ القبائل في المغرب عبد الوهاب بن منصور، وكان بينهما رجل ثالث، سيكون له شأن كبير في ثقافة الفكر الإنساني الذي لا يتقيد بجغرافية المكان، إنه الصحفي محمد علال سي ناصر الذي خسرت فيه الصحافة المغربية إعلاميا مرموقا، وربحه عالم الفكر والفلسفة وتاريخ الحضارات الإنسانية، بعدما انبرى يختار طريقه إلى مصاف رجالات الفكر والتراث ليصبح من أبرز أعمدة منظمة «اليونسكو» في باريس.
ويبقى أن فترة الاشتغال القصيرة التي ميزت مسار المفكر علال سي ناصر في الإذاعة الوطنية، لم تصرفه عن مدارك أوسع وأرحب، أهلته لاحتلال مكانة علمية في المجمعات الأكاديمية الفرنسية والأوروبية والعالمية، من دون أن يفك ارتباطه بعالم الصحافة، لا يتدخل إلا بالقدر الذي تتيحه مبادرات إنسانية وفكرية.
مقتطف من مؤلف: ملامح من تميز نخب الجهة الشرقية لصحافي المميز الأستاذ عبد المنعم سبعي