زليخة الناصري المرأة الوجدية التي كسرت الدائرة الذكورية لمستشاري جلالة الملك
25 ديسمبر 2016آخر تحديث :
لحظات يواعدها القدر، وتشاء الأقدار أن نقف على أعتاب سنة ميلادية جديدة نودع من خلالها سنة 2015، بأفراحها وأحزانها بآمالها التي تحققت أو تلك التي تبخرت، بآلامها التي أوجعتنا أو تلك التي كانت بردا وسلاما علينا، في هذه الفترة من منتصف شهر دجنبر من سنة 2015 لملمت المستشارة الملكية زليخة ناصري أحزانها وعزف قلبها سيمفونية الرحيل فكان القدر والموت على موعد مع حسن الاختيار. رحلت إبنة الشرق البارة التي كانت المرأة الوحيدة التي يستشيرها الملك، وتركت فينا إرثا غنيا بمعاني الوطنية الصادقة ومغازي التفاني في خدمة الوطن. فمن هي هذه المرأة التي حزن على فراقها أكبر الساسة والمشتغلين على محاربة الفقر والتخلف بالمغرب العميق؟
لم تكن التلميذة زليخة الناصري ذات السبع سنوات، تدرك أن اليد التي كانت تتأبط محفظتها، وهي في طريقها إلى مدرسة الفندق أو مدرسة مولاي عبد الله بوجدة، ستحمل من الملفات ذات الصبغة الاجتماعية ما يرسم التوجهات العامة لسياسة البلاد في فترة من فتراته.
فبالرغم من الاختلافات المرتبطة بكلمة السر التي فتحت للسيدة زليخة كل الخزائن، تتفق التحليلات المصاحبة لمسارات السيدة الوحيدة التي كان يستشيرها الملك، في كونها تلتقي في حزمها وجديتها المرتبطتين بإدارتها للمحطات التي بصمت حياتها المهنية، كما أنها تثير بالفعل الاستغراب في هذه الصدفة التي جمعت بين فقر الجهة التي تنحدر منها، وبين دورها الطلائعي في مؤسسة همها الحقيقي هو محاربة الفقر.
منطقة المغرب الشرقي أو الجهة الشرقية هي عدم النفعية من منطق استعماري، لكن من حسن حظ التاريخ، أن عدم النفعية لا يشل الأرحام لتلفظ الرجال والنساء الذين قد يصنعون تاريخ هذه المنطقة في محطة من محطاته، فالشرق ليس بالضروروة تلك الخريطة الجافة من الماء والاقتصاد، لكنه أيضا الرقعة التي قدمت للوطن ذلك الإنسان المؤمن بوطنيته، ولنا في ديوان النضال والدفاع عن الوطن من الأسماء ما يؤكد تلك القولة الشهيرة: “من الشرق تأتي النبوءة كما السموم”، ولعل غنى تاريخ هذه المنطقة لم يشفع للسياسة في تجاوز فقر جغرافيتها، وتلك في اعتقادنا واحدة من عوامل النسيان وفقدان الذاكرة، بل كانت في أكثر اللحظات حافزا للجهة لتقدم للوطن مزيدا من الثروات المادية والإنسانية والنماذج الخالدة في خدمة الوطن. ربما يكون القدر المأساوي هو الذي جعل هذه الجهة تضرب الأرقام القياسية في الفقر والأمية والتخلف… وربما يكون إحساس أبناء هذه الجهة بالغبن ما يجعلهم يميلون أحيانا إلى العاصفة أكثر من ميلهم إلى العاطفة لكنهم في حال محاربة الفقر والتهميش فهم مبيدات ناسفة، وتلك في نظرنا حالة السيدة زليخة الناصري، فمن هي هذه المرأة التي لفرط ما ارتبط اسمها بمؤسسة محمد الخامس للتضامن يعنقد الكثيرون أنها مديرة هذه المؤسسة؟
ولدت زليخة الناصري بمدينة وجدة سنة 1945، تابعت دراستها الابتدائية بمدرسة الفندق التي كانت تابعة لمدرسة مولاي عبد الله التي أنهت بها سنوات التمدرس الابتدائي، ثم التحقت بثانوية عبد المؤمن، وبعد حصولها على شهادة البكالوريا من مدينة مكناس التحقت بالمدرسة الإدارية بالرباط لتلتحق بوزارة المالية كموظفة بمديرية التأمينات [1].
طوال هذه المرحلة، كانت السيدة زليخة تختبر حقيقة السياسة المغربية، وكنه المجال الاجتماعي والجمعوي بالمغرب، فلقد نسجت من العلاقات مع الشخصيات التقدمية والشيوعية وقتها حتى ظن الكثير أنها مناضلة بحزب التقدم والاشتراكية، كما أنها استطاعت أن تنفتح على الفيوداليين الجدد بحزب التجمع الوطني للأحرار حتى اختيرت أمينة مال جمعية أنكاد المغرب الشرقي. قد يكون الانفتاح على فعاليات المجتمع المدني هو ما ملأ قدر السيدة زليخة ربما إعدادا لها لتحمل المسؤولية بمؤسسة محمد الخامس للتضامن، كما أن الصبغة التقدمية التي استطاعت أن تكتسبها ليس عن طريق الانخراط في حزب تقدمي ولكن في سيرتها الدراسية والمهنية التي ظلت تصاحب فيها أكثر الحساسيات السياسية يسارية قبل أن تصبح بواحد من مراكز القرار الحساسة في الدولة، قد مهد لها الطريق لتشهد مسيرة أخطر الملفات الاجتماعية المرتبطة بمدونة الأسرة وما سبقها من محطات متميزة[2].
لا يكون المرء فاعلا حقيقيا في المجتمع المدني إذا لم يكن ذلك همه في سن الشباب، ونعتقد أن سقف الفاعلية ممثلا أساسا في الانخراط بجمعية أنكاد لم يكن بعيدا عن هامة بنت مدينة وجدة، كانت الثمرة الطبيعية لطبيعة المرحلة، وستعرف بعد تجربة شاقة أن الخطوة الأولى لا ترسم بالضرورة بفرح المستقبل، عندما ستكتشف كما أحس بذلك ثلة من المؤسسين أن تنمية الجهة الشرقية كما كانت تتصورها لن تتحقق في جمعيات السهول والوديان والجبال…
إن الجسد الجمعوي للسيدة زليخة لم يختبر حقيقة المجتمع المدني إلا مع تعيينها بإدارة مؤسسة محمد الخامس للتضامن، ولعل المستشارة الملكية كانت تعيش تفاعلها مع تلك المرحلة الشبابية بنوع من ذاكرة القلب والاستفادة من نقائص التجارب الماضية.
لقد حرصت السيدة زليخة على أن تحقق طموحها في إتمام الدراسة بشكل سليم وصحيح، لهذا بعدما التحقت بوزارة المالية، ستتابع دراستها العليا بفرنسا حيث حصلت على الدكتوراه في قانون التأمين بالمغرب، ولازالت رسالتها تعتبر من المصادر القانونية الأولى في هذا المجال، وقد يكون هذا التخصص إحدى كلمات السر التي فتحت للسيدة زليخة خزائن السياسة. وما نستطيع الجزم به هو أن إدارتها لمديرية التأمينات بوزارة المالية، والجدية التي دبرت بها ملفات شركات التأمين، قد جعل من اسم السيدة زليخة الناصري أشهر من نار على علم لدى كبار رجال المال والأعمال، خاصة مع ظهور القانون الجديد للتأمينات التي كانت وراءه بنسبة كبيرة.
ولأن الطابع الاجتماعي كان حاضرا في مسيرة السيدة زليخة الناصري بالرغم من تخصصها القانوني واحترافيتها بوزارة المالية، فإنها ستعين كاتبة الدولة بوزارة الشؤون الاجتماعية المكلفة بالتعاون الوطني، على عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، فالذي يقرأ هذه المراحل من الحياة العملية للسيدة زليخة الناصري، يخال أن منصب كاتبة دولة مكلفة بالتعاون الوطني لا يعكس الانطلاقة القوية في اتجاه أحد مراكز القرار الحساسة ممثلا في منصب مستشارة الملك، لكن دليل الفكرة الاجتماعية تقول إن السيدة زليخة قد تعرفت في هذه المحطة على أكثر دقائق الأمور المتعلقة بالفقر والمرأة، ونعتقد بما يشبه الجزم أن اشتغالها في وقت مبكر على مؤسسة الزكاة كانت الإرهاصة الأولية لميلاد مؤسسة محمد الخامس للتضامن والتآزر بشكل يبرز الاهتمام الذي يوليه صاحب الجلالة محمد السادس للفئات المعوزة والفقيرة، بعدما نخرت سياسات الحكومات المتعاقبة عظام فئة عريضة من المواطنين الذين يعيشون تحت عتبة الفقر.. كما أن السيدة زليخة في محطة كاتبة الدولة ستتقرب أكثر من الحساسيات النسائية اليسارية التي بات صوتهن يرتفع بالمطالب ذات الصلة بقوانين الزواج والطلاق والولاية والحضانة… خاصة بعد توقيع المغرب على الاتفاقيات الدولية، وهو ما شجع السيدة زليخة أن تضع اللبنات الأساسية للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية عبر تنظيم ندوة علمية في ذات الموضوع، هذه الخطة التي سيخرجها سيعد السعدي إلى حيز الوجود مع بداية حكومة التناوب في طبعتها الأولى، وستجر عليه من الويلات ما لم يكن يخطر على باله، خاصة تلك المقاومة التي أبداها وزير الأوقاف آنذاك عبد الكبير العلوي المدغري وعلماء المغرب وحزب العدالة والتنمية والجمعيات ذات التوجه الإسلامي، الأمر الذي بوأ هذا الملف ليصل إلى التحكيم الملكي عبر تنظيم اللجنة الملكية لمراجعة مدونة الأسرة، وفي هذه المرحلة أيضا ستكون السيدة زليخة حاضرة بشكل قوي لأنها كانت حلقة وصل بين المؤسسة الملكية والمنظمات النسائية[3]…
فمن كاتبة للدولة بوزارة الشؤون الاجتماعية إلى مكلفة بمهمة بالديوان الملكي في أبريل 1998، إلى مستشارة للملك في 29 مارس2000، خلال كل هذه الخطوات لم تجد المرأة الوحيدة التي كان يستشيرها صاحب الجلالة، صعوبة لتتقمص صورة تتماشى ووظائفها الجديدة، المؤكد أن ما جعل هذه المرأة الوجدية يضرب لها ألف حساب هو اقترانها بمهمتين: الأولى استشارية والثانية إدارية، إذ لكونها عضوة بالمجلس الإداري لمؤسسة محمد الخامس، ومستشارة الملك، تضطلع بدور طلائعي داخل هذه المؤسسة، ولا يخفى على كل المغاربة أن عدستي القناتين التلفزيتين الأولى والثانية لا يمكنهما أن تنقلا إحدى جولات الملك الاجتماعية التي تؤطرها المؤسسة دون أن يتزعمها هذا الوجه المفعم بالحيوية والترقب، ولفرط ما ارتبط اسمها بهذه المؤسسة، يخطئ المواطنون وظيفتها الحقيقية بهذه المؤسسة معتقدين أنها المديرة، لكنها عضو وأي عضو، عضو يبادر إلى الاتصال بالقطاعات الوزارية وتقديم المشاريع وانتقاء المجتمع المدني، الأكثر من هذا بات بديهيا أن قبيل كل زيارة ملكية تستطلع السيدة زليخة المناطق والمحطات التي سيمر منها الموكب الملكي، وتحتج بلهجة شديدة إذا ما تبين لها أن لبنة من لبنات البروتوكول قد هدمت.
فالذين يعرفون أدبيات العلاقة التي تربط الملك بمستشاريه يعلمون ولا شك أن هذه العلاقة تكون ذات طابع شخصي وليس ذات طابع تنظمي، وهذه العلاقة هي التي تحدد مدى قرب المستشار من الدائرة الملكية أو ابتعاده عنها، فمتى اعترى وشائج هذه العلاقة أي تأثير انعكس ذلك على وضع المستشار ضمن هذه الدائرة، ومن ثم يمكن فهم الشخصية التي تحاول أن ترسمها المرأة الوحيدة التي تكسر الدائرة الذكورية لمستشاري جلالة الملك لنفسها، وتتبلور أساسا فيما يمكن تسميته بإصرارها على تنفيذ مقترحاتها وبخشية المسؤولين الحكوميين من صدور أوامرها الصارمة التي ترجع كل شاذ عن فلسفة وروح البروتوكولات الملكية إلى مكانه، ولا نظن أن هذه المميزات الخاصة للسيدة زليخة كانت لتمر دون أن تضع لها مكانا خاصا في صلب القصر الملكي، فالخبرة التي راكمتها عن طريق التجربة الأكاديمية والاجتماعية والفترة التي قضتها داخل القصر الملكي سمح لها بشيء كبير من التعرف على دواليب ومراسيم تسيير شؤون الحكم وممارسته. ومع كل ما كان يقال في معاكسة هذه المرأة أو مباركة خطواتها، فلا يمكن إسقاطها من المعادلة، فهي التي كانت تتقن فن ترويض السياسيين في حالة استغلال الظرف الاجتماعي بطريقة حزبوية أو سياسوية خدمة لأجندة معينة، وسند هذه الفكرة ما ترجمه حزمها أثناء كارثة زلزال الحسيمة حين وقفت حاجزا أمام أولئك الذين أرادوا الركوب على الحدث سياسيا، وربما من ثم جاءت فكرة منع زيارة الوزراء على انفراد إلى الحسيمة باستثناء وزير الداخلية والسيدة زليخة بالطبع، وفي هذا المصاب أبدت المستشارة الملكية عن قدرة خارقة في التخفيف من المأساة حتى إن معدل نومها لم يكن يتجاوز الثلاث ساعات يوميا أثناء تواجدها بالحسيمة وفي هذه المرحلة لقبت الصحافة المغربية السيدة زليخة ناصري ب “الأم تيريزا”[4].
ويتذكر المغاربة يوم زار صاحب الجلالة محمد السادس مقر “الخيرية الإسلامية عين الشق” بمدينة الدار البيضاء، فقد تجوّل الملك بين أروقة بناية هشة أوضاعها أشبه بـ”مراحيض عمومية” لم تمر بها مواد النظافة لسنوات. حينها، لعبت المستشارة الراحلة دوراً مهمّاً في فضح ملفات الفساد التي عرفتها الخيرية، وقامت قبل زيارة الملك لها في صيف عام 2005، بمعاينة وضع هذه الخيرية سرا، ثم نقلت لصاحب الجلالة رسالة وقرصاً مدمجاً تضمن مشاهد نقلتها التلفزة المغربية بعد الزيارة. وكان ملف هذه الخيرية الملف الأبرز في مسار زليخة ناصري، حيث قاد تدخلها إلى اعتقال مديرها ومحاكمته بأمر مباشر من محمد السادس، مع ثمانية متهمين في الملف.
كما لعبت المستشارة الراحلة دوراً مهماً في زيارة وصفت بالتاريخية من طرف وسائل الإعلام المغربية، قادت ملك المغرب إلى منطقة “أنفكو” ، بعد وفاة عشرات الأطفال في المنطقة الجبلية بسبب برد شتاء عام 2008. زيارة عجّلت بتدشين طريق معبّدة ربطت قرى المنطقة بمجموعة من مراكز المدن والتجمعات الحضرية هناك، كما تم تدشين مشاريع صحية واجتماعية واقتصادية لصالح السكان…
هذه هي السيدة زليخة الناصري التي استطاعت أن تجد لاسمها مكانا متميزا ضمن الأسماء الذكورية التي يستشيرها الملك، وهي واحدة من النخب المنحدرة من الشرق والتي أبدت تميزا واضحا في أدائها ووظائفها.
مقتطف من مؤلف: ملامح من تميز نخب الجهة الشرقية لصحافي المميز الأستاذ عبد المنعم سبعي