مصطفى بنحمزة ل”الأيام”،ليس بإمكاننا أن نعيد مظلمة الحسين من جديد ونبكي عليها لأن هذا صار في ذمة التاريخ
حينما نتحدث عن قضية تتجاوز أهميتها الأفراد والفئات وتعلو إلى مستوى الأمة وكينونتها وتدينها، فإن المقاربة الرشيدة يجب أن تكون مقاربة تستحضر الأمة كلها في علاقتها بالقضية المدروسة، ولا يصح منهجيا أن تقارب قضية بهذا الحجم وبهذه الأهمية من خلال زاوية ضيقة هي زاوية الاختيار الفردي، لأن الآثار المترتبة والتداعيات المتوقعة ستكون لها انعكاساتها وظلالها الإيجابية أو السلبية على مجموع الأمة، ولن تقتصر على أفراد معينين.
ويشبه هذا إلى حد بعيد أن العالم المعاصر أصبح يتعامل مع القضايا الدولية باستدعاء أكبر عدد من الدول للمشاركة في التفكير وفي اتخاذ القرار، فحينما أصبح العالم يتحدث عن قضايا المناخ وعن مخاطر الاحتباس الحراري، فقد اقتضى ذلك أن تعقد المؤتمرات الدولية وأن تعالج القضية معالجة تتجاوز إرضاء مشيئات الأفراد أو الفئات، أو تمكين بعض الناس من ممارسة الحرية الفردية، لأن التبعات الثقيلة ستعم الجميع.
وبخصوص السؤال المطروح عن إمكانية استنبات تيار شيعي في البيئة المغربية، وإن كان ذلك يؤطر ويكيف بالحق في ممارسة حرية الاختيار، فإن الجواب لا يجوز أن يكون جوابا حديا تقريريا، وإنما يجب أن يمر عبر حوار هادئ يعتمد طرح الأسئلة الجدية المفضية إلى الأجوبة السلمية.
والأسئلة التي يمكن أن تطرح كثيرة، لكن أبرزها وأجداها هو ما كان له انعكاس عملي وأثر على استدامة الوحدة التدينية والسلم الاجتماعي في المغرب.
وأول سؤال وجيه يجب طرحه هو سؤال عن الجديد وعن القيمة المضافة التي يستفيدها الإنسان المغربي من استقدام تيارات عقدية هي الآن تعاني مشكلات حادة، وصراعات دموية في بيئاتها، مع العلم بأن هذه التيارات قد سبق لها أن مرت يوما ما بالمغرب، ثم حسم المغرب معها وانتهى إلى إقرار الوحدة العقدية والمذهبية التي فرغته لبناء الحضارة.
إني أظن أن من المفيد أن نخرج الحوار من التجريد إلى الواقع، وأن نستلهم إشارات الماضي ودروس الحاضر من أجل صياغة الجواب الصحيح.
فبخصوص الماضي فقد كان للمغرب تجربته التاريخية مع المذاهب العقدية، وهذا أمر معلوم وموثق. فقد عاش المغرب في تاريخه المبكر حالة من التشتت العقدي أفضت إلى حال من الاحتراب، ومن الرغبة في التمدد والتوسع أدى الإنسان المغربي ثمنها من استقراره ومن دمه ومن زمنه أيضا.
فقد تصارعت في المغرب مذاهب عقدية منها المذهب الخارجي بفرعيه الإباضي والصفري، وعرف المغرب المذهب الشيعي ممثلا في طائفة البجليين، كما عرف المذهب الاعتزالي الذي كان له حضور قوي في المغرب، وكان من أثر وجود هذه المذاهب وتزاحمها وصراعها أنها بطأت مسار البناء الحضاري ومسعى خدمة المعرفة، ودام ذلك نحوا من ثلاثة قرون، يقول عبد الله كنون: إن جناية الخوارج في المغرب لا تعدلها جناية. فإنها تسببت في انقسامه على نفسه وتسليط بعضه على بعض، مما أدى إلى بقائه زهاء ثلاثة قرون طعمة لنيران الحروب. [النبوغ المغرب 1/46].
ويمكن الوقوف على مزيد من تفاصيل صراع المذهب الشيعي والخارجي على أرض المغرب بالاطلاع على ما كتب عن تاريخ المغرب المبكر، ومن المفيد الاطلاع على الخصوص على أعمال الندوات التي أنجزتها مجموعة البحث في تاريخ الأفكار والتقنيات التابعة لكلية الآداب بالرباط، وأصدرتها في كتابين هما كتاب المذاهب الإسلامية ببلاد المغرب بين التعدد والوحدة، وكتاب الصراع المذهبي ببلاد المغرب، والكتابان من تنسيق حسن حافظ علوي، وهما منشوران سنة 2008.
وقد أنهى المغرب ذلك التشتت العقدي لما أخذ بالمذهب المالكي وهو ليس مذهبا في الفقه فقط، وإنما هو مذهب في العقيدة السنية أيضا.
لقد تحدث من ترجموا لمالك عن تعلقه الشديد بالسنة، وعن توقيره للنبي صلى الله عليه وسلم وتأدبه مع حديثه، وتحدثوا أيضا عن رفضه للبدع العقدية قبل البدع العملية.
وقد أفرد القرافي ضمن كتابه الذخيرة فصلا تقصى فيه الحديث عن عقيدة مالك، وهو فصل مفيد في بابه. [ الذخيرة للقرافي 13/233]
وبسبب الأخذ المزدوج بالمذهب المالكي في شقيه العقدي والفقهي، فقد شكل المذهب تيارا سنيا لاحظه غير واحد ممن ترجم لعلماء المالكية.
وقد قال الخليفة الأندلسي هشام بن عبد الرحمن إنه نقر وبحث في تراجم العلماء، فوجد أن العلماء المالكية لم ينسب واحد منهم إلى الاعتزال أو التشيع أو الخارجية أو الإرجاء، وهذا أمر عرفوا به.[ المعيار المعرب للونشريسي 6/357].
ولهذا فقد شكل المذهب المالكي مناعة عقدية ضد تسرب كل الفرق التي أحدثت في أماكن أخرى اختلالات كبيرة، وعصفت بالسلم الاجتماعي.
ومن أمثلة التصدي المالكي للفرق أن المالكية واجهوا العبيديين بتونس، بعد أن أصر هؤلاء على فرض مذهبهم الشيعي، وألزموا الناس بطريقتهم في ألفاظ الأذان وبترك صلاة التراويح وإطالة صلاة العشاء في رمضان، والإساءة إلى الصحابة، وقد تحدث المؤرخون عما لقيه بعض العلماء الذين رفضوا الانصياع للعبيديين من أذى وتنكيل، ومنهم ابن أبي زيد القيرواني والقابسي وأبو عمران الفاسي، وتحدث القاضي عياض عن تفاصيل الحكم على إسحاق بن البرذون وأبي بكر بن هذيل، وإعدامهما. [ ترتيب المدارك 5/118].
هذا عن الواقع التاريخي، أما عن الواقع الحاضر الذي يجب استحضاره واستنطاقه من أجل الإجابة عن جدوى استنبات تيار شيعي بالمغرب، فهو واقع بئيس مشاهد تعيشه بعض الدول الإسلامية التي سقطت في مأزق الطائفية العقدية، وأعمل فيها الناس القتل في إخوانهم ومواطنيهم بوحشية وقسوة، بناء على الهوية والاسم الشخصي أو العائلي الذي يفسر بالانتماء الطائفي، وبعد هذا فجرت المساجد وقتل المصلون الآمنون، وشَرِقت الأرض بالدم، كما لم يحدث في تاريخ المسلمين.
وقد جهل أو تجاهل المراهنون على الطائفية أن أكثر ما يختصم فيه هؤلاء، هو آراء نشأت في التاريخ الإسلامي على هامش أحداث سياسية تتعلق بالأحقية في تدبير الدولة وفي الخلافة، وكل ذلك ليس من ضرورات الدين، وقد نشأ بعد أن أعلن القرآن اكتمال حقيقة الدين بقول الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم. وليس من المنطقي استجلاب خلاف وقع في التاريخ البعيد ونقله إلى الحاضر، وإدانة بعض المسلمين به.
ولقد صادرت الطائفية مفاصل الدولة وأجهضت إرادتها لما حكمت الانتماء الطائفي في تسيير دواليب الدولة، وجعلته معيارا للاختيار، ووزعت إمكانات الدولة على قاعدة المحاصصة التي صارت موارد الدولة فيها غنائم للمتغلبين، وهكذا فقد عطل منصب رآسة الدولة في لبنان لمدة تزيد عن السنتين، وشهدت البلاد أحداث التفجير والتدمير، وفككت عرى الدولة اليمنية، وأدخل العراق في أزمة خانقة نشأت عن الطائفية، وامتد التصدع إلى التيار الشيعي نفسه، فكان للتيار الصدري احتجاجاته ومطالباته بحكومة التكنوقراط، وظل حزب الدعوة وغيره مصرين على المحاصصة والاستفادة وفق الولاء للمرجعية الطائفية، وظل الاتجاه السني يرقب المشهد عن بعد ويتجرع آلام الحسرة على مشاركته الأولى في صناعة هذا الوضع الهجين.
إن هذه الحالة تعيد إلى الواقع ذكرى العصر البويهي وما وقع فيه، وذكرى الدولة الصفوية ومشروعها، وتعيد أحداثا مؤلمة فعلها القرامطة وغيرهم، وبعد كل هذا فإنه لا بد من طرح سؤال آخر، هو السؤال عن أي جاذبية في هذا الواقع المتأزم المتشرذم حتى تغري بأن تؤخذ منه جذوة من ناره المشتعلة المتلظية، وتنقل إلى المغرب لتحرق ما وقعت عليه.
إن ميزة المغرب وفرادته تتمثل في أنه استطاع أن يحافظ على وحدتين متوازيتين متلازمتين عبر تاريخ طويل، ولكن بعد تجربة ومعاناة، وهما وحدتا العقيدة السنية ووحدة المذهب المالكي السني عقيدة وفقها، وقد عاشت أكثر جهات العالم الإسلامي حالة أخرى هي حالة ثنائية المذهب الفقهي، فكان في دول كالجزائر وتونس مشيختان هما: المشيخة المالكية والحنفية، بحكم أن الدولة العثمانية كانت حنفية، وفي مصر كان في المسجد الواحد أربعة محاريب إلى زمن قريب، وقد خلا المغرب من الطائفية، وكانت أقرب نقطة إليه هي مكان وجود الإباضية في الجزائر.
ومثل هذه الحالة التي عرفها المغرب وضمنت استقراره جديرة بأن يحافظ عليها ولا يتساهل فيها، لأن إرضاء أي فرد أو فئة هو أقل أهمية من أن تدفع وحدة الأمة وسلامتها ثمنا له.
إن الحالة التدينية في المغرب هي في حاجة أكيدة إلى دراسات معمقة وموسعة، وهي في حاجة إلى أن تحمى وتطور، وهي في حاجة إلى أن يوضع لها مشروع مجتمعي يرعاها عن علم ومعرفة، وهذا التدين المغربي الذي يواجه بنماذج وافدة من الشرق، أو من مناطق أخرى يجب دراسته وتقديمه للناس، وإبراز المستندات التي أسسها عليه علماء المغرب وهم علماء القرويين في كل ما اختاروه، استنادا منهم إلى فهم السنة أولا، وإلى إعمال الأصول الاستنباطية الكثيرة التي يحفل بها المذهب، ومنها على الأخص أصل المصالح المرسلة، وهو ما خرج العلماء عليه كثيرا من التصرفات التي قد يجهلها الناس في جهات أخرى فيعيبونها على المغاربة. ومنها قراءة الحزب الراتب وهو أمر قديم يعود إلى زمن الموحدين وهو يستمد شرعيته من فعل أبي الدرداء، ومن الاحتكام إلى أصل المصلحة المرسلة. وقد كانت المصلحة فيه هي الرغبة في تعميم نشر القرآن ومساعدة من لم يتأت له الأخذ عن شيوخ القرآن ليقرأه قراءة سليمة تراعي أحكام الأداء وتخرج الحرف من مخرجه وتعطيه حقه ومستحقه.
إن الخلاصة التي يجب الانتهاء إليها هي أن نموذج التدين المغربي نموذج مؤسس على أدلته وقائم على أصوله، وقد تبلور برعاية العلماء وبما كتبوا عنه، وإن محاولة تفكيك هذا النموذج واختراقه بما يأتي من الشرق أو من الغرب بدعوى تصحيح تدين المغاربة هو عمل يستبطن مغامرة كبيرة ويفتح على المجهول، ويصرف عن الاشتغال بمواجهة التحديات الحقيقية، ومنها تحدي الحفاظ على الأمة وسلامتها وتمكينها من أسباب الدفاع عن نفسها وعن قيمها، وتحقيق الكفاية والكرامة لأفرادها.وكل ذلك يتطلب اعتدالا ورفقا وسعيا إلى التجميع دون التفريق.
العلامة مصطفى بنحمزة