تمغربيت:
بقلم الأستاذ القدير: الصديق معنينو
عندما وصلت إلى “مداغ”، شعرت بارتياح، بعد تعب شديد إثر رحلة طويلة تحت أمطار طوفانية. تهيبت الرحلة ورددت مع رفاقي “ذكر السفر” ونحن نقطع المسافات في اتجاه عاصمة القادرية البودشيشية التي أزورها لأول مرة.. اندهشت لعظمة المكان وكثرة البنايات وشعرت داخليا بهدوء روحي.
التصوف والتعبئة:
التصوف في المغرب قديم ومتأصل، طبع الحياة الدينية والاجتماعية، في إطار عقدي توافقي، يرتكز قيم أخلاقية هي أساس الهوية الوطنية.. وساهم التصوف في التعبئة الشعبية من أجل الدفاع عن “دار الإسلام” وتحرير الثغور وطرد المستعمر، لذلك برز في مقدمة المتصوفة مغاربة أعلام وصل صداهم وتأثيرهم إلى أقصى المعمور.
الأصول
تعود أصول الطريقة القادرية البودشيشية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، دفين بغداد، بينما تعود البودشيشية إلى أحد شيوخ الطريقة، حين كان أيام الجوع يوزع على الفقراء حساء “دشيشة” الشهير
عرفت هذه الطريقة انتشارا واسعا، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث انتمى إليها الآلاف من المريدين من المغرب، ومن مختلف القارات، ويلقب مريدوها ب “الفقراء”.
المواعيد
لعل من أشهر مواعيدها الاحتفال الكبير بعيد المولد النبوي الشريف.. والذي يحضره خلق كبير من الأتباع.. لكن قبله ببضعة أيام تتم لقاءات في إطار المنتدى و “يتضمن دروسا ومحاضرات”. وهناك كذلك ما تنظمه “مؤسسة الملتقى العالمي للتصوف” من لقاءات علمية على مدى عدة أيام.. آخر نسخة منها (شتنبر 2023) كانت تحت عنوان “التصوف والقيم الدينية والوطنية من أجل تأسيس مواطنة شاملة”.. شارك في هذا اللقاء العلمي عدد من العلماء وأساتذة الجامعات من المغرب وخارجه.
على أن شهر غشت يشهد اعتكافا جماعيا يخصص لندوات ولقاءات فكرية حول السيرة النبوية والقضايا الموازية.
الضريح:
ولاحتضان هذه الأنشطة تطوع واكتتب عدد من “الفقراء”، فقاموا ببناء “المعلمة” وهي جامعة للدراسات الإسلامية.. ثم “دار القرآن” لحفظ القرآن وشرحه، وبناية ضخمة لإقامة الحفلات الكبرى، غير أن ما أثار انتباهي هو الضريح الكبير للشيخ حمزة.. زرت هذا الضريح وحضرت موعد ترديد اسم الله “اللطيف” جهرا وسط أجواء ربانية.
سبحة الشيخ
كانت قمة زيارتي حين استقبلني يوم وصولي شيخ الطريقة سيدي جمال الدين القادري البودشيشي في منزله.. تميز استقبالي بكثير من الترحيب.. ودامت الجلسة طويلا وخلالها أخذ الشيخ يديَّ وأكرمني ب “المصافحة” وهي أعلى درجات الرضا والقبول.. ثم زاد من اهتمامه وتقديره بأن أهداني “سبحته الشخصية”.
وطيلة اعتكافي في الزاوية، كنت أتناول طعام الإفطار والسحور على مائدة الشيخ العائلية. كان الرجل كريما ولطيفا وغاية في الطيبوبة.
خلال ذلك شعرت بأن جوّاً من التآخي والتسامح يسود الأجواء.. وأن التصوف المغربي يساهم في تعميق الشعور الوطني اعتمادا على قيم دينية وأخلاقية إنسانية..
حضرت “الليلة” وبها كانت “الحضرة” أو “لعْمارة” والتي أشرف عليها الشيخ.. كان ذلك مساء السبت حيث ردد الحضور المديح النبوي والسماع الصوفي.. لكن ما أثار انتباهي هو حضور عدد من الأوروبيين والأمريكيين ومساهمتهم في “الجَدبة” وسط أجواء احتفالية ربانية.. لكن الملفت هو أن مجموعة من سبعة شبان فرنسيين اعتكفوا وحضروا “الليلة” ورددوا جماعة وفرادى الأذكار بخشوع وإيمان..
اكتشفت هذه “الواحة المثمرة” فسعدت بعطائها وإشعاعها.. فسلكت الطريق بنية صادقة وإيمان متجدد.