اهمية الرأسمال اللامادي –التصوف – في بلوغ التنمية المنشودة، والحفاظ على التماسك الاجتماعي والاستقرار وتحقيق التوازن والأمن الروحي، وإبراز حضوره المتجذر في تاريخ الامة كثابت من ثوابت الهوية الدينية والوطنية، وضرورة الاستثمار في العامل البشري والرأسمال اللامادي الوطني، محاور تطرق لها الدكتور مولاي منير القادري خلال مداخلته في الليلة الرقمية الواحدة والتسعين من ليالي الوصال الرقمية للطريقة القادرية البودشيشية.
استهل القادري كلمته بالإشارة الى أن الثقافة الصوفية تشكل محورا عريقا وجليا من تاريخ الأمة الإسلامية بتناسق وانسجام مع مرجعيتها الدينية والأخلاقية، وأنها شكلت على مر الزمان أرضا للتعايش والعيش الآمن والاستسقاء الروحي في عالم تتطلع فيه الإنسانية إلى حياة روحية مشرقة ونشيطة، وإلى إذكاء زخم ثقافة السلم والمحبة والسلام.
وأضاف أن الثقافة الصوفية تمكننا من الانفتاح على الثروات اللامادية لعمقنا الإنساني والاحترام البديهي لتعدد الديانات والثقافات، مع الجمع بطريقة لا تخلو من خصوبة بين المعرفة المادية والروحية للإنسانية، والمساهمة في تشييد حضارة أخلاقية، يُرْجَى لها أن تكون أكثر احتفاء بالإنسانية وبعدها الروحي والأخلاقي.
و تابع أن النبي صلى الله عليه وسلم حصرَ الغايةَ مِن بعثته في تمامِ صالحِ الأخلاقِ، مستشهدا بالحديث الشريف «إنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ»، وقول إبن القيم الجوزية رحمه الله: “وقد اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم، أن التصوف هو الخلق”.
وانتقد تهمیش الحضارة المعاصرة للجوانب الروحیة والقیمیة للإنسان، معتبرا ان ذلك أدى إلى دخول مجتمعاتنا في أنفاق مظلمة، رغم التقدّم الحاصل ماديا وتقنيا، واستطرد موضحا أن ذلك تجلى في الأزمات الأخلاقية والنفسية الخانقة التي یتخبط فیها إنسان اليوم، والفراغ الروحي المهول الذي یعانیه، ومظاهر الانحراف السلوكي، بالإضافة إلى الاستنزاف المتزاید للثروات، وما رافقه من اختلال خطیر في النظام البیئي العالمي، وغیر ذلك من الجوانب السلبية لهذه التنمیة المادية الصرفة.
وأوضح أن رجالات التصوف والطرق الصوفية الأصيلة عملوا على أن يتبوأ الاهتمام بالأخلاق و القيم صدارة انشغالات الإنسانية، حتى تعيش تطورات العالم الحديث وواقعها المعاصر في تناغم مع القيم الكونية للعدالة والمساواة والاحترام والعيش المشترك، وأبرز أنها مقاربة تحث على تطوير الإحساس واستكشاف الرموز المتجلية في هذا الكون، لأن مصدرها مقام الإحسان وغايتها السمو بالروح وتهذيب النفس والتحلى بروح المسؤولية والالتزام لمصلحة الإنسانية.
وقال القادري “إنها تربية أخلاقية عرفانية تهدف إلى حماية فضاءات حياتنا من التهالك، مع ربط وعي الناس بأهمية المفهوم المركزي للمحاسبة الدائمة للنفس ومراقبتها لتحقيق الواجب إزاء الله وخلقه، كمصدر ومنطلق للعمل والالتزام الأخلاقي، حتى ينخرط الإنسان فاعلا في درب الإيمان و الإحسان، ويكابد وسط تداعيات العيش في المجتمع في خضم معركته في هذه الحياة طلبا لوجه الله تعالى وتحقيق سعادة الدارين كما ورد في الأثر:( فمن خاف الله خوف الله منه كل شيء،)
قال تعالى: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) (سورة الإسراء الآية 72)”.
ولفت الى أن التصوف ينبغي أن يُفهم على أنه ممارسة إنسانية تعبُّدية، تتَّخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايتين، احداها أخلاقية يتجلَّى دورها في العمل على إصلاح المجتمع الإنساني، وتهذيب أخلاقه ورَوْحَنَتِه، والأخرى معرفية تتمثل في صلة العبد بربِّه، والتي هي صلة تعبُّد ومحبَّة، يُرجى – من بلوغ مداها الأقصى- تحقيق المعرفة بالله .
وأضاف ان التربية الروحية والأخلاقية للتصوف هي خلاصة الأذواق المعرفية الرائقة للمشايخ أهل الله التي وجب علينا استغلالها في تأهيل العنصر البشري دينيا وروحيا وفكريا وسلوكيا، بموازاة مع التأهيل العملي، مؤكدا أن هذه القاعدة هي التي حملها نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم في تأسيسه للنموذج التنموي للأمة، الصالح لكل زمان و مكان، ليخلص الى أن “كمال خلق العبد في تحققه بمقام العبودية وقيامه بحقوق الربوبية”.
وبناء على ما سبق بسطه، اعتبر رئيس مؤسسة الملتقى أن التصوف ورجالاته أمام تحدي بعثه من جديد، وإحياء وظيفته المركزية المتمثلة في تزكية النفوس وتطهيرها وإصلاح المجتمعات، عن طريق تجديد الخطاب الصوفي بما يتلاءم ومقتضيات العصر انطلاقا من كون “الصوفي ابن وقته”.
وأضاف أن الصوفي يعم بخدمته الجميع بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، و يشمل بمعروفه من يستحقه ومن لا يستحقه، وأنه إنسان يوازن بين بعده المادي والروحي ويخدم حاضره و يصنع مستقبله، مذكرا بقوله صلى الله عليه وسلم “اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ” (رواهُ التِّرْمذيُّ).
وتطرق الى التعريف الأكاديمي للرأسمال غير المادي الذي هو الرأس المال البشري غير المادي المتجسد في القيم التي لها تأثير على المواطن أو المجتمع والتي تنعكس إيجابا أو سلبا في كل ما يتعلق بفاعلية أداءه الإجتماعي و الاقتصادي، لافتا الى أنه من أحدث المعايير المعتمدة دوليا، لقياس القيمة الإجمالية للدول، وأكد أن البلدان المتقدمة، لم تتقدم إلا بفضل اعتمادها على الاستثمار في رأسمالها البشري كمصدر قوة محركة لكل وسائل و أسباب النمو والإزدهار الاقتصادي.
و نوه الى أن “الفريد مارشال” أكد على أهمية الاستثمار في الرأس المال البشري باعتباره استثماراً وطنياً، وأنه أفضل أنواع الرأس المال قيمة، ومفتاح تقدّم الأمم والشعوب.
وأضاف أن مصطلح الرأسمال اللامادي ليس بالجديد في المجال السياسي والاقتصادي، وأنه ظهر في بداية الستينات من القرن الماضي مع الاقتصادي الأمريكي
“. الذي اعتبر ان “كفاءة ومعرفة الفرد شكل من أشكال الرأسمال الذي يُمْكِنُ الاستثمار فيه Schults
وأوضح أن التراث الصوفي في المملكة المغربية باعتباره تراثا روحيا كبيرا ورأسمالا رمزيا لا يُستهان به، تتجاوز قيمته الوظيفة التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية، إلى النظر إليه باعتباره مقوما أساسا من مقومات الهوية المغربية الأصيلة، خاصة في بعدها الديني والحضاري، لافتا الى أن هذه الهوية قامت على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الإمام الجنيد، وإمارة المؤمنين باعتبارها الضامن الذي يحمي هذه الهوية ويعمل على تقويتها والحفاظ عليها ورعايتها وضمان استمراريتها.
وأضاف أن هذا التراث الروحي للأمة المغربية هو ثروة لامادية قابلة للاستثمار والتحويل وإنتاج الثروة، حيث قال “ثروة أخلاقية و قيمية من شأنها إذا آمن بها الشباب خاصة و الناس عامة وعملوا بها أن تصلح من شأنهم وتحسن أحوالهم وتأسس إلى نهضة علمية وإقتصادية وحضارية، جوهرها الرأسمال اللامادي وأساسها قيمة رجالاتها و أخلاقهم وقيمهم الإنسانية و الاجتماعية ومواطنتهم الصادقة مصداقا لقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ). ( سورة الرعد الآية 11 )”.
و أورد في ذات السياق مقتطفا من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لاعتلاء عرش أسلافه الميامين، “إننا نعتقد أن النموذج التنموي المغربي، قد بلغ درجة من النضج، تؤهلنا لاعتماد معايير متقدمة وأكثر دقة، لتحديد جدوى السياسات العمومية، والوقوف على درجة تأثيرها الملموس على حياة المواطنين.
وهو ما أكده البنك الدولي، الذي أبرز أن القيمة الإجمالية للمغرب، شهدت خلال السنوات الأخيرة، ارتفاعا ملموسا، وخاصة بفضل النمو الكبير لرأسماله غير المادي
ويعتبر الرأسمال البشري غير المادي من أحدث المعايير المعتمدة دوليا، لقياس القيمة الإجمالية للدول”.
و أشار الى أن المغرب انتبه منذ البداية من خلال التوجيهات السامية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وايده، إلى ضرورة إجراء تقييم شامل لثروته اللامادية و التوفر على أدوات جديدة لتدبير السياسات العمومية مع الاهتمام بالرأسمال اللامادي بمفهومه الشامل للجانب الروحي لدعم التنمية، وضرورة بلورة نموذج تنموي جديد مغربي-مغربي ينطلق من خصوصياتنا المغربية، ويستلهم فقط من التجارب الدولية في نقاطها الإيجابية، وكذا الارتقاء بالموروث الثقافي والروحي –التصوف- وإطلاق تنمية جهوية تعتمد على تأهيل الموارد الجهوية وتطويرها لتسهيل تنزيل مقتضيات النموذج التنموي في بلدنا.
واختتم مداخلته بالتأكيد على ضرورة ادراك الجميع “أفراد وجمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والزوايا الصوفية و العلماء وكل الفاعلين في المجتمع”، أن الاستثمار في العنصر البشري أولوية و حتمية لا مناص منها، حتى مع وجود موارد طبيعية أو صناعات وطنية قوية، تفاديا للوقوع في أخطاء دول اعتمدت على الريع في اقتصادها، حيث لم تحافظ على ثرواتها ولم تلحق بركب التقدم والازدهار، وتابع ان الاستثمار في الثروة البشرية والطاقات الشابة، يروم إعداد جيل من الشباب هم عماد المجتمع و العنصر الأهم في ضمان مستقبل وطننا و نهضته وتحقيق تنمية متكاملة متوازنة و مستدامة، تنمية مادية الظاهر لكن روحية في جوهرها، مما يضمن لبلدنا الريادة والمكانة الرفيعة التي تستحقها وتصبوا إليها تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة أمير المؤمنين الملك محمد السادس نصره الله .