اعداد:حساين محمد
واصلت مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال، تنظيم فعاليات ليالي الوصال الرقمية من خلال الليلة الخامسة والثلاثين، التي أقيمت السبت 9 يناير 2021 ، والتي عرفت على غرار الليالي السابقة مشاركة الدكتور منير القادري بودشيش، مدير مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، بمداخلة حملت عنوان: “القناعة و الرضا مفاتيح السعادة في الدارين “.
أوضح في بدايتها أن الإنسان جبل على حب الخير والحرص على أن يكون أحسن من غيره، مستشهدا بقوله تعالى في سورة العاديات ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [ الآية:8]، وقوله عزوجل أيضا في سورة المعارج ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾ [الآيات: 19-21].
وبين أن مفاتيح سعادة الإنسان تكمن في قيمتين أخلاقيتين متلازمتين هما الرضا والقناعة بما قسمه الله له، موردا مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة الدالة على ذلك،
واستطرد موضحا أن القناعة والرضا من أخلاق الأنبياء، وسمات الأتقياء، وصفات أهل الفوز والفلاح، منبها إلى أننا في الزمن المعاصر الذي كثر فيه التذمر والطمع والجشع، نكون أحوج إلى القناعة والرضا بما قَسَّمَ الله لنا، مذكرا بالحديث النبوي الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم “لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ”.
وأرجع الدكتور القادري تفشي الجشع والطمع الى غياب القناعة، وأوضح أن الشعوب والمجتمعات اكتوت بنيران الحسد والكراهية والبغضاء، وانتشار السرقات والخروقات والصراعات بسبب فقدان القناعة.
وأشار إلى أن القناعة هي الرضا بما أعطى الله، وأنها الاستغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث، والبعد عن التسخّط والشكوى، مبرزا في سياق كلمته “أن القناعة للغني تتمثل في ن يكون شاكرا راضيا، بحيث لا يَغُشُ في تجارته، ولا يمنع الأجير حقه، ولا يمنع زكاة ماله، إن ربح شكر، وإن خسر رضي، أما قناعة الفقير فتتمثل في أن يكون راضيا بما قسم الله له، مستسلما لأمر الله، لا ساخطا ولا شاكيا، ولا جزعا من حالِه، ولا غاضبا على رازقه، وأن لا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش”، موردا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة، والذي قال فيه : “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”.
وأبرز رئيس مؤسسة الملتقى أن العفة وغنى النفس والقناعة والرضا، فضائل نشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ليوفر لهم العزة ويحصنهم بالكرامة، وأضاف أنه صلى الله عليه وسلم كان قَنُوعاً زاهداً راضيا صابرا محتسبا، وأنه كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأَشّدَّهُم رغبة في الآخرة.
و تابع الدكتور القادري “كيف لا يكون كذلك ورب العالمين سبحانه خاطبه بقوله: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ” موردا مجموعة من الأحاديث الشريفة الدالة على قناعته وزهده.
و أوضح أن للقناعة والرضا وسيلتين تعينان الإنسان على اكتسابهما، تتمثل أولاهما في الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق، وأنه كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، مستدلا بقوله تعالى في سورة الذاريات: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الآية: 58]، وبحديث رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة في سننه والذي قال فيه: « أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ »،
أما الوسيلة الثانية فتتمثل في العلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان من الله تعالى لعباده، موضحا أن الفقير ممتحن بفقره وحاجته، والغني ممتحن بغناه وثروته، وكل منهما مسؤول وموقوف بين يدي الله عز وجل، مستشهدا بقوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾، و بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ”.
ونبه إلى أنه إذا كان الفقر ابتلاء، فكذلك الغنى ابتلاء وامتحان، مستدلا بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾، وقوله سبحانه: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾، وقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: “لنْ تَزُولَ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسْأَلَ عن أَرْبَعِ خِصالٍ عن عُمُرِهِ فيمَ أَفْناهُ؟ وعَنْ شَبابِه فيمَ أَبْلاهُ؟ وعَنْ َمالِهِ من أين اكْتَسَبَهُ وفيمَ أنْفَقَهُ؟ وعَنْ علمِهِ ماذا عمِلَ فيهِ”.
وأشار مدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم إلى “أن للقناعة فوائد وثمرات تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والأمان والطمأنينة في الحياة الدنيا والفلاح في الأخرة، منها
أولا: امتلاء القلب بالإيمان بالله تعالى، والثقة به والرضى بما قَسَمَ وَ رَزَقَ وَقَدَّر” ، موردا مقولة للصحابي الجليل ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: “مَا يَضُرُّ عَبْدًا يُصْبِحُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُمْسِي عَلَيْهِ، مَاذَا أَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا “، ثانيا: القناعة سبيل لتحقق الشكر، فمن قنع برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن احتقر رزقه قصَّر في شكر ربه سبحانه، مستشهدا بقوله تعالى في سورة ابراهيم:” وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” (الآية7 )، وقول ابن عطاء الله السكندري “من شكر النعمة فقد عقلها بعقالها ومن انكرها تعرض لزوالها “، ثالثا: عيش المؤمن الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، مستدلا بقوله تعالى في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الاية: 97]، وموردا بعض الأقوال المأثورة منها ما ورد عن علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم أجمعين أنهم قالوا: “الحياة الطيبة هي القناعة” ، رابعا: القناعة تورث صاحبها العزة ، حيث إن العز كل العز في القناعة، والذل كل الذل في الطمع، وأن المرء القَنُوع لا يحتاج إلى غيره من الناس فلا يزال عزيزًا، وأما الطامع فَيُذِّلَ نفسه بطلبه المزيد من غيره، موردا قصة ذلك الأعرابي الذي قال لأهل البصرة: “من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم”.
وشدد على أن انتشار الأخلاق السيئة بين المسلمين اليوم، كالرشوة والسرقة والاختلاس وسيطرة القيم المادية والنفعية على الحياة، لايمكن أن يواجه إلا بالتربية الروحية الإحسانية والأخلاقية، كما دعا إلى مواجهة المفسدين بسن القوانين الرادعة و فرض احترامها، ونشر الأخلاق و القيم الإنسانية، موضحا أن الأمر صراع بين الخير والشر ، وأنه لا سبيل للفوز إلا عن طريق التربية الروحية الإحسانية التي تروم زرع القيم الأخلاقية في الشباب وتنشئتهم على حب الوطن وعلى الأخلاق الفاضلة.
و اختتم كلمته بالتذكير بأن الطريقة القادرية البودشيشية ما فتئت تربي المريدين على نهج الشريعة المحمدية، تربية تهدف إلى التحلي بالقناعة بما قسمه الله، و الرضى بالحلال والمسارعة للخيرات، والتشبت بذكر الله عزوجل في السراء والضراء، حتى يكونوا لبنة في صرح بناء المجتمع و يتحقق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الامام مسلم عن أبي هُريرةَ – رضْيَ اللهُ عنه – قالَ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعجزْ. وإنَّ أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ ”.