و.م ع
إعداد: عز الدين القاضي
سليلة أسرة مثقفة، انتصار حدية امرأة شابة متعددة المواهب، وثمرة مسار من المثابرة دون كلل ولا ملل، توج بتحقيق حلم الطفولة في أن تصبح طبيبة، دون أن تنسى شغفها بالقراءة، الذي جنح بها من مدمنة على القراءة إلى كاتبة مشهود لها بالإبداع.
انتصار حدية، هي طبيبة متخصصة في أمراض الكلى وأستاذة في التخصص ذاته بكلية الطب التابعة لجامعة محمد الأول بوجدة، لكنها أيضا كاتبة وروائية، وسيدة مرهفة الاحساس، خصت في قلبها مكانا أثيرا للعمل الإنساني ضمن المجتمع المدني، فهي عضو في جمعية دعم مرضى القصور الكلوي بوجدة، وعضو بفيدرالية تنمية جمعيات مساندة القصور الكلوي بجهة الشرق.
ولعل الطاقة الفياضة لهذه المرأة ملهمة للغاية، فهي تجمع بشكل مثير للإعجاب بين مهنتها كطبيبة وأستاذة وشغفها بعالم الأدب والرواية والتزامها بالعمل الجمعوي في خدمة مرضى القصور الكلوي ودعم مبادرات التبرع بالأعضاء.
بثقة في النفس، تعتقد الدكتورة انتصار، التي رأت النور عام 1981، بأن جهودها لا يمكن إلا أن تؤتي أكلها في النهاية. فمحاولاتها الأدبية الأولى نشرت باللغة الإنجليزية عام 1999.
طبيبة، حلم الطفولة الذي صار حقيقة
في حديثها عن مسارها المهني، أشارت الدكتورة حدية، التي عاشت وترعرعت في الرباط حيث تابعت دراساتها، إلى أنها في سن الثامنة، اكتشفت جمال هذه المهنة من خلال السلسلة الامريكية الشهيرة “الدكتورة كين .. المرأة الطبيبة”.
“لقد كنت منبهرة جدا بعزيمة هذه المرأة، وطريقتها في إنقاذ حياة الناس والتخفيف من آلامهم، لهذا قررت في وقت مبكر من حياتي أن أصبح طبيبة”، تقول انتصار حدية في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للمرأة، عادت خلاله إلى مسارها الاستثنائي وأحلامها وهواياتها.
بعد حصولها على البكالوريا، اختارت دون تردد دراسة الطب، حيث اجتازت مباراة الطبيب المقيم بالمركز الاستشفائي الجامعي بالرباط، التجربة التي كانت بمثابة نقطة تحول “ساعدتها كثيرا على تعلم مجموعة من الأمور من خلال التواصل مع المرضى ومعالجة الحالات الطارئة .. الإقامة الطبية تعتبر مدرسة حياة، مجتمعا مصغرا يتيح معرفة الناس وتطوير مهارات بناء العلاقات”.
بعد هذه المرحلة الغنية، اختارت التخصص في أمراض الكلى الذي يعتبر تخصصا دقيقا، موضحة أن “هذا التخصص الطبي بنطاق تدخله الواسع لطالما أثار فضولي منذ البداية”.
وإذا كان حلم الطفولة قد تحقق، فقد كان ذلك بفضل كثير من الجهد والمثابرة والعزم من جهتها، وأيضا بفضل الدعم غير المحدود لعدد من الأشخاص.
بكثير من الامتنان لأولئك الذين وقفوا بجانبها حتى النهاية، تقر أنها محظوظة بوجود أبوين متعلمين “سانداني كثيرا، كما وجهاني في الحياة، ووثقا بقدراتي، وفتحا عيني على آفاق الثقافة، بل آفاق الحياة بكل اختصار”.
بالإضافة إلى دور الابوين، اعتبرت أن حظها رافقها حتى بعد زواجها والارتباط بشخص “رائع” و”متفهم” واصل دعمها وتشجيعها على اختياراتها ومشاريعها.
الكتابة، الوجه الآخر
بتشجيع من أبويها، سبحت منذ ربيع عمرها في بحر القراءة والكتابة، حيث اكتشفت الأدباء الكبار الذين بصموا مسيرتها كقارئة نهمة للكتب، سواء بأسلوب كتابتهم أو خيالهم او التزامهم، تأثير زرع فيها الرغبة في الكتابة والحكي والحديث بذات المنوال.
وقالت إن “عددا كبير من الكتاب المشهورين، ومن مختلف الجنسيات (أفرو-أمريكيين وعرب …) كان لهم تأثير علي، خامرني دوما الحلم بأن تحظى كتاباتي بالمتابعة والتقدير، حلم تحقق مع مرور السنوات حينما أبرمت أول عقد للنشر عام 1999 مع كامبريدج يونفيرسيتي بريس”.
وعمل هذا الناشر المرموق على إصدار أولى مجموعاتها القصصية بالإنجليزية، بينما صدرت روايتها الأولى “إذا وهبنا الله الحياة” (Si Dieu nous prête vie) عام 2016 من دار نشر (سان أونوري) وأعيد إصدارها بالدار البيضاء من دار النشر (أوريون)، والتي كانت أصداؤها مشجعة للغاية.
وتلقي هذه الرواية الضوء على تجربة الحب والألم والأمل والمغامرة لمجموعة من الأفراد الذين يتقاسمون حصص غسيل الكلى. إنها راوية تعري ببراعة عن أنواء الحياة المرتبطة بتصفية الدم لمرضى القصور الكلوي، كما تجرد الصعوبات التي تحد من الوصول إلى زراعة الأعضاء.
لقد كان تخصصها في أمراض الكلى بمثابة مصدر إلهام لكتابة باكورة رواياتها، فالطب بالنسبة لانتصار حدية مهنة تواصل وقرب من الناس، ونافذة على المجتمع تلتقي من خلالها بالألم والمعاناة والمرض، بل والموت أحيانا، حيث يكتشف المرء مكامن الضعف البشري، موضحة أن عملها “مبعث كثير من الأفكار كما يثير الكثير من الأسئلة، ويغذي الإبداع الثقافي والأدبي بطبيعة الحال”.
إثر لك، نشرت عملها الأدبي الثاني الموسوم ب “على خيط الأحلام” (Au fil des songes)، وهو ديوان شعري يثير الكثير من الأسئلة الوجودية حول قضايا الحياة والعدالة والحق في الاختلاف (…)، طبع عام 2019، وحاز الجائزة الأولى للفرنكوفونية في إحدى المسابقات الأدبية.
أما في روايتها الأخيرة بعنوان “المجهول”، تحكي انتصار حدية بإسهاب عن ظروف المرأة بالمغرب والإرث والأطفال المتخلى عنهم والكفالة ومواضيع أخرى.
في كتاباتها، تميل الطبيبة الأديبة إلى الرواية الاجتماعية، حيث تحكي وتصف بأسلوبها الخاص المجتمع والمغرب، الذي يعد بلدا فريدا ومتعددا في الآن نفسه، بشكل يجعل القراء على دراية بعدد من الأمور، كما تدعوهم بطريقة مضمرة إلى الحوار والنقاش.
العمل الجمعوي، امتداد للمهنة
من وجهة نظر هذه السيدة الشابة، يعتبر العمل الجمعوي بمثابة امتداد للمهنة فهو “لا يمكن فصله عن المجتمع، خاصة في مجال من قبيل تخصصها حيث تتعامل مع أمراض مزمنة ومكلفة ماديا”.
وشددت على أنه “يتعين تظافر الجهود، وعلى المجتمع المدني أن تكون له كلمة بهدف تحسين الأوضاع، وذلك من خلال المساهمة في المبادرات المحمودة التي تقوم بها الدولة، وقبلها جهود المجتمع العلمي في مجال طب الكلى”.
ويعتبر المرور من مهمة الطبيب والأستاذ إلى الفاعل الاجتماعي خطوة أساسية من أجل مساعدة الأشخاص الذين يعانون من القصور الكلوي، بل، وكما ترى انتصار حدية، “لا يمكن لشخص أن يصبح طبيب أمراض الكلى وأن لا يكون مستعدا لدعم التبرع بالأعضاء، خاصة وأن اختيار زراعة الأعضاء يعتبر العلاج المثالي للقصور الكلوي المزمن في مرحلته النهائية”.
وإن كان الطب في المغرب قد تقدما مهما كما تتحسن الأشياء سنة بعد أخرى، فالطريق ما زال طويلا.
في ردها على سؤال حول الوصفة السحرية للجمع بين مهنتها كطبيبة كلى ومهمتها كأستاذة وتطوعها كفاعلة جمعوية ومسؤوليتها كأم، أجابت بكل بساطة “حينما نقوم بالأشياء بكثير من الشغف، لا يمكن إلا أن ننغمس فيها بكل حب”.
وكنصيحة للنساء، تابعت انه يتعين وضع أهداف واضحة ومحاولة العمل على تحقيقها في حدود الإمكان، وأن يتغلب الإنسان على نفسه وأن لا يبقى حبيس الرؤية الضيقة للحياة. كل فرد يملك في مكنون نفسه قدرات تحتاج فقط إلى التطوير.
بخصوص أهدافها ككاتبة في القادم من الأيام، أسرت أنها لم تتوقف أبدا عن الكتابة ولديها العديد من المسودات التي قد يتم نشرها في الوقت الملائم، مبرزة “بالنسبة لي، الكتابة نشاط حرية وتوازن، لهذا لا أضع أجندة أو تاريخا محددا للنشر”.
كأم، تتمنى انتصار حدية أن يكون أبناؤها مواطنين صالحين، متحملين لمسؤولياتهم، عارفين أن عليهم حقوقا وواجبات تجاه مجتمعهم وبلدهم.