حوار مع الشيخ مصطفى بنحمزة
حاوره إبراهيم بوحولين.
إن ما يطبع مسار الدكتور مصطفى بنحمزة ويميزه عن كثير من العلماء والمتصدرين للشأن الثقافي والدعوي في المغرب وخارجه، مزاوجته بين التكوين العلمي الرصين والعمل الاجتماعي الميداني الذي ينطلق فيه من مقولة أن المعرفة الحقة إنما هي تمام العلم لتمام العمل، فقد عمل منذ انطلاق حياته العلمية والدعوية على توعية أعيان الجهة الشرقية وأغنيائها بأهمية العمل التطوعي، واستطاع بفضل إخلاصه ونقاء سريرته أن يكون واحدا من أكبر المتصدرين للعمل الاجتماعي في هذه المنطقة، كما استطاع أن يقدّم نموذجا حيا لوظيفة العالِم المنشغل بقضايا أمته الدينية والدنيوية.وهذا الحوار مع فضيلته هو بقصد إطلاع القراء على اهتمام الشريعة الإسلامية بهذا الصنف من العمل (العمل الاجتماعي).
سؤال: لقد أصبح العمل الاجتماعي الذي هو صورة من صور التضامن الإنسانيفي واقعنا المعاصرمرتبطا بالحضارة الغربية ارتباط النص بعنوانه،فإلى أي حد أسهم الإسلام بما هو مشروع مجتمعي وحضاري يتجه نحو تأسيس ثقافة مجتمعية في ذات المجال؟
جواب: العمل الاجتماعيليس أمرا حادثا، هو قديم قدم الحضارات البشرية نفسها، لأنه مساندة تضمن استمرار المجتمعات من حيث هي قائمة على التضامن، وإذا وقع أن زالت هذه الخاصية في أي مجتمع سيكون مصيره التفكك والاضمحلال، ففي العالم الإسلامي مثلا كانت هناك قيم معروفة قبل البعثة وبعدها، ذلك أن العصر الجاهلي سجل لنا نماذج كثيرة من القيم التضامنية، إن مع الإنسان أو الحيوان، ولنا أن نمثل ببيتين للشاعر الجاهلي الشنفرى الأزدي لإبراز صورة من صور الاعتناء بالحيوان، حيث يقول:
ولي دونكم أهلون: سيد عملس // وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هم الأهل، لا مستودع السر ذائع // لديهم ولا الجاني بما جر، يُخذل
وكلّ أبيّ، باسل، غير أنني// إذا عرضت أولى الطرائد أبسل
وإن مُدت الأيدي إلى الزاد لم أكن // بأعجلهم، إذ أجشع القوم أعجل.
فعملس وأرقط وعرفاء، هي حيوانات يصفها الشاعر أنها من أهله وليست غريبة عنه، ولذلك فهو يقدمها إذا مُدت الأيدي إلى الطعام ويؤثرها على نفسه، فنفهم من الأبيات التي ترجع إلى العصر الجاهلي أن المجتمعات العربية حينئذ لم تكن بغير ذي صلة بنُظم القيم الاجتماعية التي زكاها النبي عليه السلام حين قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
سؤال: ألا يحيل هذا -أستاذي الكريم- إلى أن قصد إتمام مكارم الأخلاق من البعثة هو تأكيد على شمول العمل الاجتماعي في الإسلام لعموم البشرية وليس لمحيط المسلمين بشكل مخصوص؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل هناك خصوصية للعمل الاجتماعي في الإسلام تزيد على مألوف الأقوام السابقة؟
جواب:لمّا كانت القيم التضامنية مرتبطة بالتجمع البشري، فإن كل دعوى تسعى إلى جعل العمل الاجتماعي خاصا بحضارة معينة هي بعيدة عن الصواب.
والفرق أن العمل الاجتماعي في الإسلام امتزج بالوجوب الشرعي، وفرق كبير بين كون العمل تطوعيا وكونه إلزاميا يستصحبصاحبه الإحساس بالوقوع في الذنب إذا هو لم يتطوع حيث ينبغي له ذلك، والقرآن الكريم قد ناط الخيرية في هذه الأمة بخدمة الناس، “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، حيث إن هذه الآية ومثيلاتها تربط خيرية الأمة الإسلامية بأداء وظيفة اجتماعية إنسانية هي خدمة الناس،وهو أمر نفهمه من خلال دعوة الإسلام إلى التواصل والتعارف بين الأمم والمجتمعات، بدءا من التحية بالسلام، إلى فتح آفاق للتواصل والتفاعل بين الأفراد والمجتمعات والأمم. فهكذا هي رسالة الإسلام تدعو للتكافل والتآزر وتدفع للمساندة المعيشية ولخدمة المجموع، ويخطئ الخطأ كله من اعتقد أن الإسلام مهتم بالجانب التعبدي فقط، إذ العمل التعبدي رافعة يعطي للمسلم قوة للاندفاع.
سؤال: في ذات السياق دكتور، كيف أسهمت المنظومة الفقهية الإسلامية في الدفع بالعمل الاجتماعي إلى تحقيق التنمية الذاتية؟
جواب:إن الإسلام يمتلك منظومة فقهية قوية ومحددة المعالم، يؤدي المسلمون من خلالها الفعل الاجتماعي في وعي كامل باختياراتهم، وبالأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، وبرصد نوع الخلل الاجتماعي الذي يسعون إلى سده، والمنظومة الفقهية الإسلامية هي برنامج عمل لتحقيق التنمية الاجتماعية الذاتية، حتى يكف المسلمون عن مد اليد إلى الغير، وقد ظل العمل الاجتماعي واجهة مشرقة في الحضارة الإسلامية يمكن أن يقدّم بها المسلمون خصوصيتهم الحضارية في أفق عقد شراكات اجتماعية عالمية مستقبلية، ولأن المنظومة الاجتماعية الإسلامية متعددة الأوجه والفقرات، فإنه يمكن الاقتصار على نماذج وصيغ للعمل الاجتماعي عند المسلمين كما أصل لها الفقهاء، ونذكر منها على سبيل المثالنظام الوقفوالذي يمكن اعتباره أهم صيغ الإحسان المستدام، وهو ابتكار إسلامي كما قال الإمام الشافعي، والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين استشاره في أرض أصابها من خيبر: “إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث”، وقد انخرط المسلمون في الوقفبالشكل الذي جعل له موقعا مركزيا ضمن النسيج الاقتصادي الإسلامي، حيث كانت الأرصدة المالية لهذا النظامفي أحيان كثيرة تزيد عن أموال الدولة على نحو ما كان في مغربنا كما يذكر المؤرخون، وحين أُحرقت دواوين الأوقاف في فاس سنة 730هـ، حكم القاضي أن جميع أملاك فاس هي أوقاف إلا من أتى بوثيقة تثبت تملكه لشيء من الملك فله أخذه، وهذا يدل على كثرة الأحباس في فاس يومئذ، وقد كانت من الشمول والاستغراق بحيث غطت جميع احتياجات المجتمع، حتى إنهم أحدثوا أوقافا للكاسورات، وصورتها أن يكسر الطفل شيئا من الأواني التي تعود للشيخ، فيلتجئ إلى الأوقاف لتعويض الشيء المكسور حتى لا يُعنف الطفل، لأن الإسلام ضد العنف!، كما كانت هناك أحباس لزينة العروس ليلة زفافها …إلخ.
المسلمون حين أدركوا أهمية الوقف وفضله عند الله راحوا يحبسون كل ما رأوا في تحبيسه خيرا ومنفعة،ففي التعليم مثلا كان التحبيس يفي بكل حاجاته، حيث وقفت الأحباس الكثيرة على المعاهد العلمية، وهو أمر قد تميّز به المغرب تاريخيا، ويكفي أن نشير في هذا المقام إلى بحث أنجزه الدكتور JOSEPH LUCCIONIE، الذي عمل مراقبا للأحباس في المغرب من سنة 1942 إلى 1956 تحت عنوان: FONDATION PIEUSE HABOUS AU MAROC، استعرض فيه أنواع الموقوفات بالمغرب، حيث ذكر منها: المساجد والزوايا ومصليات الأعياد والسقايات، والمراحيض العمومية، وقنوات الصرف الصحي ومياه السقي والشرب والعقارات والأماكن الفلاحية العارية والبساتين والأماكن التجارية، ومؤسسات التعليم، والبيمارستانات، كما يمكن الرجوع إلى كتاب الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية لمكي الناصري للوقوف على المضايقات التي تعرض لها الوقف في المغرب وفي العالم الإسلامي كله من قِبل المستعمر.ثم إن الدارسين لنظام الوقف في الحضارة الإسلامية ذهبوا إلى القول باستفادة الدول الغربية: بريطانيا وأمريكا وكثير من الدول الغربية من نظام الوقف في الواقع المعاصر، جامعاتهم مستشفياتهم ومعاهدهم … بعد أن أحدثوا قوانين تؤطر هذا العمل وتمأسسه.
سؤال: قلتم إن المنظومة الاجتماعية الإسلامية متعددة الأوجه والفقرات، والوقف كان وجها من وجوه العمل الاجتماعي وقد حظي باهتمام كبير من قبل الغرب، فهل تقربونا من بعض صيغ العمل الاجتماعي التي طورها الفقهاء غير نظام الوقف؟
جواب:نعم نظام الوقف كان أكثر جلبا لاهتمام الدارسين، ولكنصور العمل الاجتماعي كما تطورت في اجتهادات الفقهاء كانت متعددةومثيرة في تنوعها أيضا، ونذكر للمثال على هذا التنوع ما عرف بنظام الإفقار،الذي يرتكز أساسا على التبرع بالركوب، لقلة المواصلات أو انعدامها قديما، حيث كانت الدواب هي الوسيلة المسعفة في التنقل بين الأمصار.والتبرع بتوفير وسائل النقل ينطلق من توجه الإسلام وتشجيعه على تمكين الناس من السفر والتحمل، لما يترتب عن ذلك من نقل التجارب ومن الاستفادة من العلوم في أماكنها البعيدة، ومن أجل هذا جاءت كثير من الأحكام حريصة على توفير أمن الطريق، فدعا الإسلام إلى إماطة الأذى عن الطريق وجعله شعبة من شعب الإيمان، وجعل قطع الطريق وتخويف المارة أكبر الجرائم، وعاقب عليها بأشد العقوبات، ورتب للمسافرين الذين تنقطع بهم السبل حظا من الزكاة بوصفهم أبناء السبيل، ومن أجله اعتنى الفقه بأحكام الطريق، ومنع إخراج البناء فيه، ومضايقة المارين به، وتحدث عن أحكام الاصطدام بين المراكب في البحر أو بين الفرسان، وحدد لكل ذلك أحكاما خاصة… وعلى العموم فإن توفير وسائل النقل يعتبر تبرعا حضاريا يُسهم في إحداث التواصل بين الناس، ويكسب أهمية كبرى وقيمة مضافة بفعل ترابط مناطق العالم المعاصر وما أنتجته من تشابك المصالح، ومن صور الإفقار في واقعنا المعاصر التبرع بوسائل النقل من دراجات وسيارات للتلامذة المنحدرين من أماكن وعرة مما يصطلح عليه النقل المدرسي، ومساعدة المعوقين حركيا بتوفير سيارات خاصة وكراسي متحركة، كما يندرج ضمن نظام الإفقار إعانة طلاب العلم الباحثين على الوصول إلى مصادر المعلومات، ومواقع المكتبات، ومراكز البحوث والدراسات…
ومن صور العمل الاجتماعي التي طورها الفقهاء أيضاما يتعلق بالتعليم، فقد كان بث المعرفة تطوعا على امتداد تاريخ الأمة الطويل، حيث كانت المساجد مفتوحة في وجه العامة والخاصة لتلقي العلوم الشرعية والدنيوية أيضا، فلم يكن التعليم أمرا نخبويا خاصا بفئة معينة في المجتمع دون سواها، ففي الأزهر مثلا يحكي السيوطي أنه لما دخلها في القرن العاشر وجد فيه مئة حلقة، وقريب من هذا في القرويين أيضا، وهو شيء امتازت به الحضارة الإسلامية دون سواها من الأمم والحضارات، والتطوع بالمعرفة أكبر من التطوع بالمال والطعام، لأنه يسهم في بناء التنمية المجتمعية.
ومن نماذج العمل الاجتماعي كذلكالصدقة الجارية، وتضم أنواعا من المساندات الدائمة، ذلك أنها عمل لا ينقطع، بئرا كان أو مسجدا أو طريقا أو علما يُبث في الصدور، أو دعاء صالحا من خلف، “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”.
ومن نماذجه أيضانظام القَسَامةوالعاقلة وغيرها، وقد تحدث الفقهاء أيضا عن الصدقة والهبة وعن العمرى، وهي أن تعطي فقيرا بيتا يأوي إليه مدة عُمُره، فإذا مات رجع المحل إلى صاحبه، كما تحدثوا عن المنيحة، وهو تبرع خاص أسسته السنة، ويقوم على منح الغير ناقة أو بقرة أوشاة على أن يستفيد من لبنها في تغذيته، بينما يظل الحيوان في ملك صاحبه، ليستفيد من نسله أومن شعره أوصوفه أو وَبَره، ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النوع من التبرعات، حيث قال: ” أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة”، وميزة هذا التبرع أنه يسعى إلى توفير اللبن الذي له قيمة غذائية كبيرة، خصوصا في حالة الصبا ومرحلة بناء الجسم، ولقد التقطت المجتمعات الإسلامية هذا التوجيه النبوي فكان الأفراد يخصون الأسر الفقيرة ببعض الأغنام فترعى مع القطيع، ويستفيد المحتاجون من لبنها، ومن التقاليد المرتبطة بالموضوع أن الناس كانوا يرون في بيع اللبن منقصة كبرى، فكان اللبن الفائض عن الحاجة يُهدى أو يوهب أو يُجفف لوقت الحاجة فيصير إقطا، ومما يدعم فكرة التبرع باللبن أن كثيرا من منظمات الإغاثة الدولية لا زالت تجعله في الصدارة مما تقدمه للمنكوبين والمتضررين من الجفاف وللمهدَّدين بالمجاعة ونقص التغذية، وأصبحت برامج التغذية العالمية توفره إما سائلا معلبا أو مسحوقا مجففا… إن هناك أكثر من ثلاثين نوعا من العطايا في الشريعة الإسلامية تحدث عنها الفقهاء تفصيلا في مظانها، فالشريعة الإسلامية إنما هي بناء متكامل تشكلها هذه الأجزاء التي لا تخلو من خصوصيات.
سؤال:إذا كان هذا هو حال التصور الفقهي للعمل الاجتماعي في السابق وعلى هذا النحو من التقدم والرقي فما هو سر التراجع اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية عموما وفي المغرب على وجه الخصوص؟
جواب: اليوم توجد عندنا في المغرب مدونة الأوقاف، وهي في حاجة إلى تفعيل قرارات الأوقاف لتصير هي الدافع لقاطرة التنمية، لأنه لا يمكن أن تكون اليوم كل الجامعات تحت مسؤولية الدولة، فلا بد أن يكون هناك عمل داعم من قبل المجتمع، نحن الآن في حاجة إلى أوقاف لطبع الكتب، واستقبال الطلبة والإحالة دون ما يمكن أن يخلفهم عن تحمل مسؤوليتهم المعرفية، ولا أحد ينكر اليوم الوضع الذي آلت إليه المجتمعات الإسلامية من التردي الثقافي، إن على مستوى القراءة أو الإسهام والمشاركة، فأزمتنا الكبرى نحن أمة “اقرأ” هي أزمة جهل ولا شيء غيره، واليوم كثيرا من الناس لا يعرفون شيئا عن تراثهم وليست لهم أية فكرة عن العمل الإحساني وطرق التحبيس وصيغه، ولو كانت عندنا اليوم أوقاف كما كانت في الماضي عند المسلمين لاستطعنا أن نتجاوز كثيرا من المشاكل الاجتماعية والنفسية التي تعيشها مجتمعاتنا، هناك اليومالكثير من المرضى المنحدرين من البوادي والقرى إلى يأتون المستشفيات بحثا عن العلاج فيوضعون في أركان مقصية لانتظار أجلهم، هؤلاء يحتاجون إلى طعام ومآوى واهتمام في المناسبات …كنا سنتخطى هذه المعضلات الاجتماعية لو كان عندنا نظام للوقف اليوم.
جريدة المساء