العلامة بنحمزة يكتب:المساواة في البعـدين الوضعي والشرعي

24 أبريل 2017آخر تحديث :
العلامة بنحمزة يكتب:المساواة في البعـدين الوضعي والشرعي

39f60d03034a6812c35db2eeaa1b53d1
لقد أصبحت الدعوة إلى الاحتكام إلى معايير وقيم جديدة صاغها الفكر الوضعي الغربي المبثوث الصلة بالوحي الإلهي ظاهرة حاضرة ومتنامية تبرز من خلال كثير من النقاشات التي تجريها أطراف عديدة من مكونات المجتمع. ويكتسي هذا البروز قوته وعنفوانه في تساوق واطراد مع تمدد تجليات العولمة الثقافية وتغلغلها في كل فجواتنا الثقافية غير الحصينة، مدفوعة ومساندة ومؤازرة بدعاية عارمة تصور الاستعصاء على ذلك الاكتساح على أنه رفض للانفتاح ونكوص عن الانخراط في قيم العالم الحديث.
إن من السذاجة بمكان توهم أن العبور إلى الحداثة يتم باستعارة معايير معينة واستنباتها بيسر وسهولة في مناخ فكري لا يأخذ بالمنطلقات والتصورات التي أنتجت تلك المعايير، لتصير العملية برمتها عملية صورية مزيفة تنتهي بالإخفاق على نحو ما أخفقت كل عمليات فرض المذاهب الفكرية والاقتصادية التي لم تكن تجد سندها في نفس الإنسان ووجدانه، وما محاولة فرض الشيوعية بالإغراء تارة وبالقمع تارة أخرى وإخفاقها في ذلك بالمثل البعيد .
ويبدو لي أن من الضروري أولا إيقاف هذه المغالاة المتمثلة في ادعاء عالمية أو كونية المعايير التي يجري تسويقها والترويج لها، ما دامت تلك المعايير بمضمونها الغربي ليست إلا نتاجا لثقافة واحدة هي الثقافة الغربية ذات التصورات الكونية الخاصة، وذات الموقف المعروف من الدين وذات الماضي الاستعماري القديم وذات التطلعات الـهيمنية الحاضرة، وهذا ما يمنع من أن تنتج هذه الثقافة معايير بعيدة عن العوامل التي اعتملت جميعا في صياغتها .
إن من حقنا أن نستقبل كل المعايير بروح نقدية فاحصة للنظر في صلاحيتها وقدرتها على إحداث التوازن المطلوب بين الخصوصية الثقافية والتوجهات العالمية، وبين المطالب المادية والأشواق الروحية وبين الحاجات الذاتية الفردية وبين كل الشروط والمتطلبات الأخلاقية الاجتماعية.
فإذا كان المسلمون مثلا مدعوين كغيرهم من أهل الثقافات المعاصرة إلى الانخراط الجاد في تأصيل ثقافة حقوق الإنسان وإلى الدفاع عنها، فإن هذا لا يبرر أبدا أخذ مفاهيم هذه الحقوق بنفس المدلولات التي هي عليها في العالم الغربي، وقد يكون أقرب إلى الخصوصية أن نتحدث عن حقوق العبد في مقابل حقوق الخالق لتتم صياغة هذه الحقوق وفق هذه الثنائية التي لا تنسي الإنسان عبوديته ولا تطغيه وهي تؤصل حقوقه، ولنحافظ على حقوق المجتمع ممثلة في حق الله، كما أن إقرار مفردات تلك الحقوق لا يمكن أن تصل إلى العبث بالدين ولا تجرئ على منطق الارتداء ما دام الحفاظ على الدين لا يختلف في المنظور الإسلامي عن الحفاظ على بقية الكليات، التي هي كلية النفس والعقل والمال والنسب. وهذه هي أسس إنسانية الإنسان كما يقررها الإسلام، وبهذا لا يجوز إهدار الدين لفائدة منح العقل حرية غير منضبطة ولا يمكن مدافعة هذا التصور بدعوى تقييده لحرية التفكير أو التعبير، مادامت كل الثقافات تضع خانات عديدة للممنوعات منها تحريم معاداة السامية، ووجوب احترام دعاوى الصهيونية حول الهولكوست، تذرعا بانغرازها في الذاكرة الجماعية للأوروبيين والأمريكيين.
وإذا كنا نؤسس لنوعية العلاقات الجنسية وللروابط الأسرية الصالحة للأفراد وللأسر في الواقع الراهن، فإن من المغامرة أن نحاول تقبل أو استنساخ قيم ومفاهيم العلاقات الجنسية والأسرية عن مجتمع أصبح يعترف بمشروعية المعاشرة بغير زواج ويقنن لها، ويعترف بزواج المثليين ويدافع عنه، في نفس الوقت الذي يدافع عن احترام الطبيعة ويمنع المجازفة بإحداث الاختلالات فيها كما يذهب هذا المجتمع إلى تحريم الاغتصاب بين الأزواج ويعاقب عليه إلى غير ذلك من الأوضاع القانونية التي لم يكن بد من أن يصير إليها أي مجتمع يجعل شهواته ونزواته بل وحماقاته واقعا محترما يحميه القانون ويدافع عنه.
لهذه الاعتبارات وتفاديا للأخذ غير المتبصر بهذه المعايير، فإني أقدم هذه المساهمة التي حاولت بها دراسة جوانب من قيمة المساواة التي لا يكاد تضاهيها قيمة أخرى في حضورها وترددها في أدبيات المطالبة بتغيير وإصلاح مدونات الأحوال الشخصية، وقصدي إثارة الموضوع وببيان أن المساواة وإن كانت أصلا أصيلا في الإسلام فإن لها مع ذلك مفهوما محددا في الذهن وفي التنزيل التشريعي ولها موانع مقابلة. وهذا المفهوم هو مفهوم موضوعي يعلنه الإسلام ويطبقه على الخلاف من كثير من المفاهيم التي ترفع شعارات جميلة جذابة لكن التطبيقات العملية تكون مخالفة لها ماضية على أساس اللامساواة.
وسوف أدرس قضية المساواة من جوانبها التالية :
• الدعوة إلى المساواة في السياق التاريخي .
• تحديد مفهوم المساواة في الفكر الوضعي.
• المساواة في دلالتها الإسلامية.
• موانع المساواة في النظر الشرعي.

المطالبة بالمساواة في سياقها التاريخي
لقد كان موضوع المساواة قضية عني بها الفلاسفة وعلماء الأخلاق، وترددت ضمن مباحثهم المكتوبة وضمن مساجلاتهم ومناظراتهم، إشادة بأهميتها وضرورتها لإقامة مجتمع عادل ومتوازن، وتعود إثارة موضوع المساواة بإلحاح وتركيز إلى فترة الإرهاصات الممهدة للثورة الفرنسية.
وقد نجم عن ذلك الاهتمام أن أعلن منظرو الثورة ومنفذوها مبدأ المساواة ضمن الثالوث الـمؤتلف من : الإخوة والحرية والمساواة .
وقد ترسخ هذا التوجه بالتبني الرسمي للمساواة بعد أن أقرت الجمعية التأسيسية الفرنسية في غشت 1789 وثيقة حقوق الإنسان التي أعدها إمانويل جوزيف سييس SIEYES (1748 – 1826 ) ثم تضمن الدستور الفرنسي الذي وضعته الثورة عام 1791 مقتضيات تلك الوثيقة، فجاء فيه التنصيص على المساواة.
وقد بدا جليا للدارسين أن وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية قد جاءت متأثرة بآراء جان جاك روسو (1712-1778) الذي طالما اهتم بالمساواة فأفرد لها كتابه الذي أسماه أصل التفاوت بين الناس. وهو كتاب تقوم فكرته على أن المساواة كانت جزءا من الحياة الطبيعية للإنسان، وأنها لم تختل إلا بدخول الإنسان مرحلة التجمع ثم التمدن الذي أفرز مجموعة من الاعتبارات التي منها: المهارة والقوة والجمال.
فكانت تلك الاعتبارات سبب بروز التفاوت، وعنده أن التفاوت قد نشأ عن ادعاء التملك(1).
وقد تأثرت الوثيقة الفرنسية لحقوق الإنسان بإعلان حقوق الإنسان الأمريكي الذي كتبه طوماس جيفرسون (1743- 1826) (2).
وقد كشف الواقع أن مبدأ المساواة وإن تحمس له زعماء الثورة الفرنسيون فإنه لم يكن متجذرا في نفوسهم وأن أخذهم به لم يكن إلا بالقدر الذي ضمن لهم حشد الناس وتجميعهم من أجل القيام بالثورة.
ولقد تأكد هذا المقصد التوظيفي والوصولي المتوسل بالشعارات الجميلة من أجل بلوغ أهداف غير جميلة، من خلال أحداث ووقائع مؤلمة كشفت عن روح الاستبداد والتسلط القابع في نفوس أشد الناس تحمسا لتلك المبادئ الجميلة .
فعلى المستوى المحلي الذي صنع الثورة كانت حكومة روبيسبير ROBESPIERRE وهي الوريث الأول للثورة والمستفيد المباشر من مكاسبها، شؤما على الفرنسيين بما أذاقتهم من ألوان العذاب إذ أعدم روبسبير في ستة أسابيع عدة آلاف من المواطنين.
وأصدر في يونيو 1994 قانونا جرد به أعضاء المؤتمر الوطني الذين يمثلون إرادة الأمة من الحصانة تخويفا لهم وتمهيدا لسوقهم إلى المحاكم ثم إلى مصائرهم المؤلمة إن هم اعترضوا.
وأصبحت أحكام محاكم الثورة منحصرة في حكمين هما البراءة أو الإعدام ولما تأججت نار الثورة أصاب شواظها رائدين من روادها هما: دانتون DANTON و ديـمولين DESMOULINS الذين اقتيدا إلى المقصلة.
ولما بلغ العسف أشده ثارت الجماهير المتذمرة على روبيسبير وأعوانه فاقتيدوا إلى المقصلة التي طالما تحركت لتحز رؤوس الفرنسيين(1).
ولقد انكشف زيف المناداة بالمساواة عند الفرنسيين ثم عند الأوروبيين عموما بدخولهم بعد عصر الثورة مرحلة الاستعمار الذي مثل قمة الاستعلاء والاحتقار للشعوب المستضعفة، التي أدت ثمن جشع الغرب وشراهته من دماء ومعاناة أبنائها عبر أزمنة طويلة ترنحت فيها تحت أعواد المشانق أجساد الرافضين للاستعمار .
لقد اجتاحت جيوش نابليون بلادا عديدة ابتداء من إيطاليا وبروسيا مرورا بمالطا، وعبورا إلى مصر التي احتلتها تلك الجيوش سنة 1798 انطلاقا بعد ذلك إلى فلسطين التي أذاق أهلها نابليون طعم الهزيمة عند أسوار عكا المستعصمة سنة 1799.
ثم جاء القرن التاسع عشر الذي كان قرن مآسي وأحزان للشعوب المستضعفة فتم فيه احتلال الجزائر سنة 1830 ذلك الإخلال الذي كان علامة متميزة في مرحلة الاستعمار، ثم توالت الـهجمات تحت ذرائع شتى وبحجج عديدة برر بـها الاستعمار عدوانه.
ولقد سجلت الدراسات العديدة التي أنجزت عن فترة الاستعمار أن المستعمر طالما وظف أرقى المبادئ وأجمل الشعارات للتوصل إلى إخضاع الشعوب.
فلقد أعلن نابليون في رسالته التي وجهها إلى علماء الأزهر بعد احتلاله مصر أنه لم يأت لمحاربة الإسلام، وأنه على العكس من ذلك يحترم الإسلام ويجل نبيه، وأن احتلاله إنما كان لرغبة منه في رفع الظلم والعسف عن المصريين(1).
وقد فرضت إنجلترا استعمارها على زنجبار في شرق إفريقيا متذرعة بمكافحة تجارة الرقيق، واستغلت فرنسا وإنجلترا وجود أقليات مسيحية في أرض الخلافة العثمانية وفي الصين فتدخلت متذرعة بحمايتها. وأعلنت بلجيكا أن استعمارها لم يكن له من غاية إلا تطوير الكونغو.
وعلى هذا النحو تم زرع إسرائيل في البلاد العربية ليكون الكيان الصهيوني معوقا لكل نهضة، وعامل تدمير لاقتصاد كل الدول العربية والإسلامية ولطموحاتها في تحقيق النهوض الحضاري.
ولما استنفد الاستعمار العسكري أكثرا غاياته، وتوصل إلى خلخلة البناء الثقافي للشعوب المستعمرة، وإلى زرع ثقافة موالية له ومؤمنة بالنموذج الغربي، تفادى كل مواجهة مسلحة قد تكلفه أرواح جنوده وتكسر كبرياءه وتفضح فيه منطق الغالب الذي لا يقهر، اضطر إلى الجلاء عن البلاد المستعمرة بعد ما خلف بها اقتصادا مرتبطا بالاقتصاد الأوربي، مرهونا بمصالحه قائما على الاستهلاك الدائم للمنتجات الأوروبية، مما جعل كل نشاط اقتصادي متوقفا على الصناعات الأوربية, غير طامح إلى مزاحمة الاقتصاد الأوروبي أو منافس له في الأسواق.
ولقدهيأ الاستعمار لتلك التبعية بالتخطيط لوفرة متماثلة في مستعمراته في مجال الإنتاج الفلاحي والمعدني مما جعل الدول الفقيرة سابقا تتنافس في عرض إنتاجها بأرخص سعر، وفي التسابق المحموم على تزويد الآلة الصناعية الأوربية بالمواد الخام بأسعار زهيدة .
وخلال بداية مرحلة الانحسار الاستعماري برز ميثاق عصبة الأمم في 28 أبريل 1920، ثم تلاه بروز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في 10 دجنبر 1948 مصوغا بأيدي وأقلام القوى المستعمرة الرافضة إلى ذلك الحين للاعتراف بحق كثير من الشعوب في الاستقلال، وفي تقرير مصيرها لا ليكون ذاك الإعلان معبرا عن إحساس بالذنب، وعن رغبة في إقرار الحقوق، وإنما ليكون صيغة حضارية جديدة تؤسس لعهد جديد تعطي فيه الشعوب من ذاتها طواعية منصاعة لمبادئ تسمى كونية حتى ولو أن تلك الشعوب لم تسهم في بلورتها وصياغتها، وإنما يكتفى منها بالمصادقة عليها باعتبارها واقعا ماثلا لا مشروعا قابلا للإضافة والنقص أو التشذيب.
لقد ألمح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على مبدإ المساواة ونصت عليها مواد خاصة منها الـمادة1 والـمادة 2 والـمادة 7 والـمادة 16 والـمادة 21 (1)
وقد ذهبت مواثيق أخرى إلى تخصيص مبدإ المساواة بين الرجل والمرأة بمواد خاصة ، فاعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 34 / 180 المؤرخ بـ 18/11/1979 اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي جاءت في 30 مادة مقررة وجوب المساواة بين الرجال والنساء في الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية حسبما تنص عليه خصوصا المادة 3 من الاتفاقية (1)
ولم تزل الاتفاقيات تبرم والنصوص تتوالى والمؤتمرات السكانية تعقد حتى صارت قضية التمايز بين المرأة والرجل مبدأ ملغى، لصالح مبدإ المساواة الذي نادت به جمعيات من المجتمع المدني ومؤسسات حكومية ومنظمات سياسية، فكان هذا مدعاة البحث العلمي في قضية المساواة في الفكر الغربي وفي التصور الإسلامي.
وإذا كنا لا نملك إلا أن نؤازر كل دعوة جادة صادقة تسعى إلى تحقيق المساواة الحقيقية المؤسسة على احترام الخصوصيات الفردية والجماعية، وعلى ملاحظة الواقع الطبيعي الذي يجعل من كل من الرجل والمرأة ومن الطفل والبالغ أشخاصا مختلفي التكوين والاستعدادات والصلاحيات، يجب مراعاة أوضاعهم بما يحقق لهم العدالة ولا يرهقهم بما يتجاوز استعداداتهم، فإننا نظل مع ذلك متحفظين بخصوص صلاحية الغرب لزعامة وقيادة مشروع المساواة ما دامت الوقائع تشهد بنقيض ما يصرح به وما دامت ثقافة التمايز والتفوق تجد مكانها في حياة الغربيين الفكرية وهو ما عبرت عنه بجلاء نظرية المركزية الغربية وعبرت عنه نظرية صراع الحضارات التي صاغها صمويل هنتكتون، ونظرية نهاية التاريخ التي حدد بها فوكوياما غاية مستقبلية تنتهي بإخضاع جميع الحضارات وبسيادة النموذج الرأسمالي الأمريكي خصوصا.
لقد كشفت الحوادث والوقائع أن المساواة ستظل حلما جميلا يتلذذ المقهورون والمغلوبون بتوهم وقوعه ويمنع منه قدرة الغرب على الحفاظ على موقع الاستعلاء والهيمنة والتصرف في مصائر الناس، لتصبح تشكيلة واختصاصات وأنظمة المؤسسات الدولية آلات منفذة لهذا المقصد. وهي أنظمة لا ترى في تفرد خمس دول بحق الاعتراض الفيتو أمرا مخلا بمبدأ المساواة، وهذه الدول هي التي تقرر اختيار الأمين العام للأمم المتحدة حسب ما تراعيه من شروط ضامنة لمصالحها.
وهذه الدول هي التي تحتفظ لنفسها بموقع العضو الدائم لتمنح باقي الدول فرص التداول على المناصب غير الدائمة. هذا مع تدخلها في حرمان بعض الدول حتى من تلك العضوية غير الدائمة .
إن من السذاجة بمكان أن نصدق دعوى احترام المساواة أمام احتكار الدول العظمى لحق امتلاك الأسلحة النووية واستعمالها.
ومعاقبة ومحاصرة كل دولة تسعى إلى توظيف الطاقة النووية ولو لإغراض سلمية، هذا مع تصريح إسرائيل بامتلاك ترسانة نووية قادرة على تدمير الشرق العربي كله، ومع العلم بأن التدمير النووي الذي تمثله ملحمة أهرمجدون المتوقعة يظل حلما مقدسا وواقعة مرتقبة في العقيدة الصهيونية بتهيئ النفوس لتفعيل الانطلاق النووي.
إن الغرب يطالب بالمساواة نظريا لكنه يهدرها عمليا حينما يقف مكتوف الأيدي أمام جرائم الصهيونية واستخفافها بكل المقررات الدولية، وحين يرفض محاكمة شارون ويحاكم من يشاء من مجرمي الحروب إظهارا للعدالة والإنصاف، وهو يلغي مبدأ المساواة حينما يجعل أرض الدول الفقيرة مقابر للنفايات النووية مستغلا فقر تلك الدول وحاجتها وجهلها. والغرب يهدر المساواة حينما يسمح لإسرائيل بأن تميز قانونيا بين الإسرائيليين وبين عرب إسرائيل مع اتحادهم في حمل الجنسية الإسرائيلية. وهو يمارس اللامساواة المكشوفة في تمييز بعض الدول بين الأجانب المقيمين في أرضها فتسمح للأجانب الأروبيين بالمشاركة في الانتخابات وتمنع من ذلك الأجانب من دول أخرى. والغرب يجافي المساواة حينما يجهض مؤتمرات مناهضة العنصرية ويرفض الاعتراف بالخطأ ويأبى الاعتذار عن أفعاله العنصرية، في حين أنه لا يزال يظهر ألمه وحسرته على ضحايا الهولكوست، وعلى ما عاناه النصارى الأرمن، ويصدر في ذلك قرارات الإدانة والشجب تمهيدا للمطالبة بالتعويض ، والغرب يتنكر للمساواة حينما يتجاهل خصوصيات الأقليات على أرضه وحينما يتدخل في لباسها وفي ثقافتها وفي بناء أسرها، وفي أنماط معيشتها فينكر على المرأة المسلمة ارتداء ما تشاء ويؤاخذ المسلمين بذبح الأضاحي رأفة بالحيوان، ويسكت عن ألعاب تسبب آلاما حقيقية للحيوان كلعبة الثيران والتحريش بين الديكة والتيوس، وهو أيضا يتجاهل مبدأ المساواة، حينما يجعل جمعيات حقوق الإنسان تنظر إلى الشعوب بعين الغرب فتقع عيونها على ما في البلاد الإسلامية من ممارسات اجتماعية وتراها اعتداء على حقوق الإنسان فتتدخل في خفاض النساء وفي الختان، وفي تنفيذ بعض الحدود الشرعية، وفي محاولة بعض الآباء المسلمين الاحتفاظ بأبنائهم من أمهاتهم غير المسلمات إلى غير ذلك من الأنشطة.
لكن تلك المنظمات تسكت عن قتل الأطفال في فلسطي،ن وعن تنامي موجة العنف والكراهية للأجانب وعن إحراق منازل المهاجرين في أوربا.
لقد أصبح جليا بل ومسلما لدى الأوساط المثقفة الواعية أن البيئة الغربية على كثرة حديثها عن المساواة، ليست محضنا صالحا لالتزام بالمساواة بمفهومها الحقيقي، ما دامت أنظمتها السياسية ومسلماتها الاجتماعية لا تسمح إلا ببروز لون محدد موجه من أنواع المساواة.
وإذا كانت الديموقراطية هي أفضل الصيغ الغربية الممكنة لتحقيق المساواة باعتبارها وسيلة للتعبير عن الموقف سبيلا إلى المشاركة في السلطة، فإن هذه الغاية لا تتأتى أو تتحقق إلا نظريا ويحول دون تحقيقها أن الفرد لا بد أن يتصهر في واحد من التكتلات السياسية الضخمة التي تتنافس على السلطة وهو في هذا مطالب بالتنازل عن كثير من آرائه لصالح الأخذ بآراء التكتل الذي ينتمي إليه.
لقد تناول المفكر الإسلامي منير شفيق هذا الوجه من الديموقراطية الغربية ضمن بحثه عن أسس الديموقراطية الغربية، وتحدث عن كيفيات اختيار القادة وعن مجموع الإجرآت التي يخضع لها المواطن منذ أن ينخرط في الحزب الجمهوري أو في الحزب الديموقراطي في أمريكا، أو في حزب المحافظين أو حزب الأحرار في بريطانيا فيمارس عليه الاختبار والغربلة للتأكد من طواعيته وولائه للحزب، وإذا اقتنع الحزب بصلاحيته للترشيح فإن القوى المالية ولوبيات المصالح تتدخل للإنفاق على الانتخابات، ويندرج فيها نفقات الدعاية للمرشح ولبرنامج الحزب، كما يندرج فيها جميع المناورات الانتخابية التي منها جميع التغييرات التي تجريها الهيئات الحاكمة على نظام الانتخاب وعلى التقطيع الانتخابي بغية حرمان خصومها من فرص جمع الأصوات(1)
المساواة في بعدها الفلسفي والأخلاقي
إن المساواة كما عرفتها المصادر الفلسفية والأخلاقية الغربية تختلف باختلاف المجالات الإنسانية وباختلاف الاهتمامات المعرفية، وهو ما يفرض أن ينظر إليها المهتمون من زوايا متعددة تتصل بمجالات بحثهم .
فالمساواة في المجال الرياضي تعني كون الشيئين بحيث يمكن استبدال أحدهما بالآخر كما في مثال : ب = ج فالرمزان وإن اختلفا بشخصيهما فهما متساويان في الحقيقة والماهية، وفي هذه الحال يمكن أن يقال عن المتساويين إنهما متطابقان، وإذا اتفق الشيئان في الشكل مع قياس واحد فهما متكافئان، وإذا كان الشكلان متفقين في الهيئة لا في القياس كان الشكلان متشابهين (1) .
أما المساواة في المجال الأخلاقي فإنها مبدأ مثالي مؤداه أن الإنسان من حيث هو إنسان هو مساو لأخيه الإنسان في الحق والكرامة، ولهذه المساواة ضربان : المساواة المدنية والمساواة السياسية.
فأما المساواة المدنية فهي المبدأ الذي يوجب معاملة جميع الأفراد معاملة واحدة، من حيث دعوتهم إلى القيام بالواجبات المفروضة عليهم، ومن حيث تمتعهم بالحقوق المعترف لهم بها في القانون دون تفريق بينهم بحسب نسبهم أو ثروتهم أو طبقتهم.
وأما المساواة السياسية فهي المبدأ الذي يعترف لجميع أفراد المجتمع بحق الاشتراك في الحكم وبحق التعيين في الوظائف العامة وفقا للشروط التي يحددها القانون دون تمييز بينهم بسبب نسبهم وطبقاتهم وثرواتهم وجميع علماء الأخلاق متفقون على أن هذه المساواة هي مساواة مثالية، في مقابل المساواة الواقعية المتصورة في استواء شخصين أو أشخاص استواء كاملا في اعتبارات معينة كالمال والنفوذ والموقع(2).
وقد أرجعت مصادر العلوم السياسية المساواة إلى نوعين من المساواة مساواة فعلية وهي مبدأ مثالي غير قابل للتحقق، ومساواة قانونية، ولها مجالات هي المساواة أمام القضاء، والمساواة في أداء الضرائب تبعا للدخل، والمساواة أمام الخدمة العسكرية، والمساواة في التكاليف الاجتماعية التي تفرضها الدولة لفائدة المجموع، والمساواة في الحقوق السياسية التي تشتمل على حق الترشيح للانتخابات وحق التصويت(1).
ومهما يكن الأمر فإن المساواة المدنية أو السياسية لا تعني التسوية الفعلية بين المتفاوتين في المواهب والكفاءات، ولا بين المختلفين في درجات المعرفة والإتقان، ولا بين الجادين والكسالى والمتقاعسين، وإنما يرتبط التطبيق الحق للمساواة بأمر واحد هو تمكين المتماثلين المتوفرين على الشروط ذاتها من فرص متكافئة للاستفادة من كل الحقوق التي يمنحها القانون بغض النظر عن الاعتبارات الطبقية.
فإذا كان القانون حدد شروطا لتولي مناصب معينة مثلا لم يجز أن يعتبر في إسنادها إلا الكفاءة والخبرة إذا تنافس عليها عدد ممن توفرت فيه تلك الشروط .
وانطلاقا من الإيمان بضرورة التسوية بين البشر، ومن غير تعمق في حقيقة تلك المساواة ولا في المجالات التي يجب أن تفرض فيها، فقد دافع كثير من المفكرين عن هذا المبدإ وجعلوا الدفاع عنه قضيتهم الأولى فتوالت الندوات والدعوات إلى هذا المبدإ.
لقد كان المفكرون الفرنسيون الذين مهدوا للثورة الفرنسية كانوا أكثر تركيزا ودقة حينما وقفوا مع مبدإ المساواة قاصدين إلى إبراز مقدار الفجوة الفاصلة بين الإنسان في واقعه الراهن آنذاك، وبين الواقع الذي يمكن أن يكون عليه في حال تحقق المساواة.
وقد كان النظام الطبقي الفرنسي يسعفهم بشيء غير قليل من الشواهد والأدلة الواقعية المدعمة لموقفهم .
موقف الأوربيين من قضية المساواة
1. المساواة في فكر جان جاك روسو
لقد كان جان جاك روسو أكثر المفكرين الأوروبيين إصرارا على إقرار المساواة، وقد دافع عنها على أساس أنها الوضع الطبيعي للإنسان، فأفرد لهذا الموضوع كتابا أسماه: أصل التفاوت بين الناس.
لقد خصص القسم الأول من الكتاب للحديث عن المزايا التي يتمتع بها الكائن حينما ينسجم مع الطبيعة وينمو وفق قوانينها، ولكنه يفقد الكثير منها حينما يقحم على حياته أنماطا من السلوك تنأى به عن الوضع الطبيعي.
وقد أكثر روسو من الحديث عن جسم الإنسان البدائي الذي ما كان له أن يتسلق الشجرة بسرعة فائقة لو كان له سلم، كما لم يكن له أن يكسر أغصان الأشجار القوية لو كان تعود على استعمال الفأس، وكما لم يكن له أن يعدو بسرعة لو أنه دجن حيوانا للركوب، ولو أردنا التأكد من هذا وقابلنا بين إنسان متمدن وآخر متوحش وأعطينا المتمدن سلاحا لأمكنه أن يتغلب على المتوحش، لكن الأمر يختلف تماما لو تصارع متوحش ومتمدن بلا سلاح لأن المتوحش يحتفظ بكل القوى الطبيعية الذاتية، بينما يفقد المتمدن الكثير منها.
وقد تابع روسو الاستشهاد على نظريته بالواقع الصحي للإنسان, وذكر أن الإنسان قد جلب على نفسه الكثير من الأدواء والأمراض, بسبب الأغذية العديدة (1).
واستشهد روسو على ما قاله عن أصالة الصحة في جسم الكائن بأن الحيوانات التي لا تعرف الطب قد تصاب بجروح وكسور، لكن تلك الجراح سرعان ما ترفأ وتلك الكسور سرعان ما تنجبر.
وقد رأى روسو أن الإنسان قد زود بجهاز مقاومة ذاتية مكنه من أن يعيش حياة طبيعية في غير ما حاجة إلى مأوى ولا لباس، وفي غنى عن كل ما ألفه الإنسان فيما بعد وأسماه ضروريات(1).
وبعد هذا يتحدث روسو عن منشأ اللغة، فيرى أنها قد نشأت بدافع التواصل ضمن التجمع العائلي خلال المرحلة المدنية، وفكرة التجمع العائلي هي فكرة مدنية لا تنتمي إلى عالم الإنسان المتوحش(2).
وقد رفض روسو فكرة نشوء اللغات في هذه المرحلة، ما دام الإنسان قد عاش هائما لا يعرف استقرارا في مكان معين، فمن ثم يكون منطقيا أن نتصور تنوع الإشارات اللغوية بتنوع الأشخاص.
ويرجح روسو أن صراخ الطبيعة هو اللغة الأولى للإنسان، وهي اللغة المنتشرة في كل مكان.
وعن نشوء اللغة ترتب نشوء الأخلاق التي يخالف روسو فيها مذهب هوبز الذي كان يرى أن الإنسان شرير وقاس بطبعه. وقد رد هذا بأن الدموع إفراز طبيعي يعبر عما في القلب البشري من رحمة(3). فمن ثم قرر روسو أن الرحمة عاطفة طبيعية.
وفي القسم الثاني من كتاب روسو عمد إلى بيان الانحراف الذي دخل على طبيعة الإنسان, وقال: إن المؤسس للتجمع المدني كان هو أول إنسان سور أرضا ثم قال: هذه لي فصدقه السذج(4).
وعنده أن التملك كان سبب الانحراف، فبميل الإنسان إلى التملك وبتطور معارفه نشأت لديه بعض الألفاظ المعبرة عن التفاوت مثل ألفاظ الكبير والصغير، والقوي والضعيف، والسريع والبطيء، والخائف والجريء.
وقد كان التوفر على شيء من هذه المميزات داعيا إلى تميز من توفرت فيه بنوع من التقدير.
وعن ذلك الإحساس بالتقدير نشأ الاعتداد بالنفس وازدراء الغير، وادعى كل أن له الحق في ذلك التقدير، وتبعا لذلك برزت آداب المجاملة واعتبر الإخلال بها إهانة.
وتبعا لذلك برزت ضروب العقاب التي كان ينـزلها من أحس بالإهانة بمن أهانه، فصار الناس قساة وسفاكي دماء على الخلاف من طبيعتهم التي كانت شفيقة ورحيمة، وعلى هذا النحو يمضي روسو في تقرير طروء اللامساواة بدخول الإنسان المرحلة المدنية وبانسلاخه عن المرحلة الطبيعية التي مثلها الإنسان المتوحش.
وإذا كان التوغل في المرحلة المدنية أمرا لا محيد عنه، ما دام ذلك يؤهل الإنسان إلى العيش الكريم المناسب لمركزه من الكون، فإن آراء رو سو تبدو غير قابلة للتطبيق، بل هي آراء تجعل من المستحيل إقرار شيء من المساواة ما دامت هذه المساواة مرتبطة بمرحلة لا يمكن الرجوع إليها، ومثل هذا الاستنتاج هو ما جعل فولتير يعيب فكرة روسو ويقول: إن الذي يقرأ كتاب روسو يشعر بالرغبة في المشي على أربع.

المساواة في فكر فولتير

وعلى النقيض مما كان عليه روسو من حماس شديد واندفاع قوي للمناداة بالمساواة، فقد كان فولتير أكثر تحفظا وأقل إيمانا بإمكان إقرار المساواة ما دام الناس مختلفين في قدراتهم وفي كفاءاتهم.
وكان يرى أن اللامساواة أمر لا مفر منه، وهذا أساس من أسس المجتمع، لكنه من الصعب التخلص من عدم المساواة بين الناس ما بقي الرجال رجالا والحياة حياة (1).
وكان فولتير يعبر عن رأيه في المساواة الممكنة بقوله: أولئك الذين ينادون بالمساواة من الناس يقولون صدقا لو عنوا بقولهم مساواة الناس في الحرية والفرصة وفي امتلاك الأشياء وحماية القانون، ولكن المساواة أكثر الأشياء طبيعية وأكثرها خيالا ووهما في الوقت ذاته، فهي طبيعية إذا اقتصرت على الحقوق، وغير طبيعية إذا حاولت مساواة الناس في الحكم وفي السلطة والأملاك والمتاع، لأن المواطنين ليسوا جميعا على قدم المساواة في القوة، ولكن يمكن مساواتهم في الحرية؛ هذه المساواة في الحرية هي التي فاز بها الشعب الإنكليزي، وكونك حرا يعني أن لا تكون خاضعا لشيء سوى القانون(2).
إن هذا المفهوم للمساواة الذي يقف عند الاعتراف بالمساواة في الحرية وبالمساواة أمام القانون،هو بالذات ما تبناه ودعا إليه دعاة تأثروا بفولتير من أمثال تورغو كوندورسي وميرابو. وقد بدا للفرنسيين أن هذا هدف متواضع يقصر عن آمالهم في المساواة حتى ولو كانت على حساب الحرية.
وإذا كان فولتير قد حصر المساواة في المطالبة بالحرية وفي المساواة أمام القانون وألغى من اعتباره أشكال المساواة التي تتجاوز الفوارق بين الأشخاص وبين أنواع منهم ذكورا وإناثا، فإن هذا لا يعني أن فولتير تفرد بهذا الرأي، لأن الصحيح هو أن فولتير ليس إلا صوتا جهيرا تمكن من إعلان رأيه وإسماعه مستفيدا في ذلك من شهرته ومكانته الفلسفية، وإلا فإن نظرية اللامساواة المطلقة هي مذهب فلسفي دافع عنه الفلاسفة وعلماء الأخلاق من زوايا متعددة (1).
أكتفي أن أورد من واقع الفلسفة الغربية المنادية باللامساواة مثال ماكس شيلير الذي كتب نقدا لاذعا لدعوى المساواة، ذهب فيه إلى أن دعوى المساواة ليست إلا غثاء مزيفا لحقيقة أخرى هي الحقد الذي تضمره قلوب عاجزة عن الارتقاء إلى مستويات أعلى.

2. المساواة في فكر ماكس شيلير.( 1874-1928)
يقول ماكس شيلير: يبدو واضحا أن وراء هذه المساواة المنشودة غير الـمضرة في الظاهر تتستر دائما، سواء كانت هي المساواة الأخلاقية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم السياسية أم الدينية الرغبة الوحيدة في خفض الأشخاص المعتبرين أكبر وأعظم من غيرهم إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل درجات السلم، ما من أحد يتطلب المساواة حينما يشعر أنه يمتلك قوة أو نعمة تتيح له على أي صعيد كان أن يتفوق، أما الذي لا يخشى الخسارة فهو وحده الذي يتطلب المساواة العامة. إن هذا التطلب يشبه المضاربة على انخفاض الأسعار لأنه يزعم أن الناس ليسوا متساويين إلا على صعيد القيم الأدنى.
إن المساواة في نظر ماكس شيلير ليست أكثر من وهم يتذرع به العاجزون الذين يتمنون أن يكون المتفوقون مثلهم، وهي بهذا أثر لشعور نفسي متولد عن الإحساس بالإحباط.
وإذا كان هذا التخريج يحاول أن يرد المساواة إلى الباعث النفسي، فإن بالإمكان أن يرد بأن هذا لا يعم جميع حالات المطالبة بالمساواة.
كما أن كثيرا ممن نالوا درجة التفوق ليسوا بالضرورة نابهين أو موهوبين حصلوا على درجاتهم بناء على جد ومثابرة، لأن الواقع يشهد بأن بعضهم قد تسلقوا إلى تلك الدرجات بالابتزاز والاحتيال وسلب الآخرين حقوقهم.

المساواة في المنظور الإسلامي.

إن المساواة في الإسلام شأنها شأن كل القيم التي جاء بها الإسلام ذات مفهوم محدد ليس مفوضا في تحديده إلى آراء الناس ولا إلى تقلبات المناخات الفكرية، وإنما هو مفهوم قار تضبطه نصوص القرآن والسنة وتدل عليه كثير من الأحكام الشرعية التي تنبئ عن حدود المساواة ومجالاتها كما هي في الإسلام.
وتلك النصوص والأحكام الجزئية مفيدة على الإجمال أن المساواة إن كانت حقا لكل الناس من حيث المبدأ والأصل، فإن هناك اعتبارا في الإسلام يراعي احترام الطبيعة البشرية وملاحظة الفوارق الذاتية، تأسيسا على الإيمان بحكمة الله في الخلق وبعده عن العبث والعشوائية.
فالمساواة أصل في كل ما يحقق كرامة الإنسان ويصون آدميته ويعلي من شأنه، ويفي بهذا كله وجوب تحقيق الكليات الخمس التي اعتبرها الإسلام مقومات لإنسانية الإنسان وأركانا ضرورية لوجوده المادي والمعنوي وهي: كلية الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
واحترام هذه الكليات يتم بإيجادها وبتدعيم وجودها، إذا وجدت وبدرء ما يخل بها. أو يعرضها للتلف ولا ينظر في ذلك إلا إلى توفر معنى الآدمية، ليبقى الناس متساوين في ضرورة المحافظة على كل تلك الكليات.
وأحب أن أبين هنا أن ما في التشريع الإسلامي من توزيع المهام الاجتماعية، ومن تخصيص نوع من الناس بحق من الحقوق، وحجب حق من الحقوق عن فئة من الناس، لا صلة له بالكرامة أو الاعتبار وإنما هو أمر يعود إلى تحقيق مقاصد أخرى منها: إحداث التوازن بين الحقوق والواجبات، والسعي إلى توظيف الطاقات والمواهب والاستعدادات الفطرية في المجال الذي هيئت له طبيعيا.
وقد صار مسلما ومعروفا أن تجاوز أو إهمال المعطى الطبيعي والفطري أصبح يمثل خطرا حقيقيا على مستقبل البشرية على الأرض خصوصا بعد بروز ظواهر غريبة كظاهرة الاحترار الجوي وذوبان الجليد وفيضان المياه والعواصف العاتية وانثقاب طبقة الأوزون وظاهرة جنون البقر، وغيرها من الظواهر التي نشأت عن الاختلال الإيكولوجي الذي أحدثه تدخل الإنسان في النظام البيئي باقتلاع الأشجار وبتلويث المجال، وبتحويل الحيوانات العاشبة إلى حيوانات لاحمة.
ويمكن الاستئناس في التدليل على توزيع الإسلام للأدوار حسب الاستعداد الطبيعي، وحكم الإسلام في توزيع غنيمة الحرب الذي يقرر فيه الشرع بأن يعطى الفارس سهما واحدا، بينما يعطى الفرس وهو حيوان سهمين، من غير أن يكون ذلك تقليلا من شأن الإنسان أو تفضيلا للحيوان عليه، وإنما ذلك لاعتبار معنى آخر، هو التحفيز على العناية بالخيل.
إن الإسلام قد وضع حدا فاصلا بين الكرامة وحق المساواة من جهة، وبين ما يقرره من الأحكام التي تتوخى العدل باعتباره هو الغاية التي ليست المساواة إلا وسيلة إلى بلوغها.
1. المساواة في القرآن
إن حديث القرآن عن المساواة حديث متكرر وصريح في إفادة أن المساواة في أي منحى من المناحي متوقفة على وجود التماثل في المستفيدين من المساواة.
ويمكن أن نقرأ في كتاب الله النصوص التالية قوله تعالى: ( يا أيها الناس إنّـا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم). (الحجرات 13).
وقوله تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (النساء 2).
وقوله تعالى 🙁 إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى).(آل عمران 195).
وأما حديث القرآن عن نفي المساواة فمثاله قوله تعالى : (لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل، أولائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا). (سورة الحديد 10).
وقوله: ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون). ( الحشر 20)
وقوله: ( لا يستوي الخبيث والطيب) (المائدة 102).
وقوله تعالى : ( وليس الذكر كالأنثى) ( آل عمران 36).
ولقد جرد العلماء المسلمون من مجموع نصوص القرآن والسنة قاعدة المساواة وربطوها بالمماثلة بين المتساويين.
يقول ابن تيمية في الموضوع: وهو سبحانه وتعالى كما يفرق بين الأمور المختلفة فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة فيحكم في الشيء خلقا وأمرا بحكم مثله فلا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين .(1)
وقد بحث د.عبد الكريم زيدان في الفصل السابع من كتابه السنن الإلهية قانون التماثل والاتحاد وهو بصدد تقرير سنة الله في المتساويين والمختلفين، فكان بحثه بحثا جيدا مؤداه امتناع إهمال الفروق بين المتباينين في مجال التشريع الإسلامي (2).
2. مجالات المساواة
إن المساواة كما يراها الإسلام ذات دوائر وأبعاد مختلفة بحسب من تتوجه إليهم وبحسب ما يقصده الإسلام من الأفراد وما يقومون به من وظائف اجتماعية إنسانية محققة لوظيفة الاستخلاف في الأرض.
وأوسع تلك الدوائر هي الدائرة التي تنتظم جمع أفراد النوع الإنساني بصرف النظر عن عقائدهم وصلاحهم وفسادهم. في هذه الدائرة يتساوى الناس في حقهم في الحياة وفي التغذية المناسبة وفي التعرف على الحق وفي حفظ الأنساب وفي الاستفادة من الكرامة التي جعل الله الآدمية مناطا لها لما قال تعالى:
(ولقد كرمنا بني آدم) (الإسراء 70).
ومن لطائف الإشارات القرآنية في الموضوع أن إبراهيم عليه السلام لما سأل الله أن يرزق المؤمنين من أهل مكة أجابه سبحانه بما يفيد تعميم الرزق على الكافر والمؤمن من أهل مكة لتكون عقوبة الكافر على مستوى آخر، يقول الله تعالى:
( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبيس المصير” (البقرة 126).
وقد اعتبرت حياة الذمي في الإسلام معصومة بحكم عهد الذمة، وكان من مذهب أبي حنيفة وابن حنبل أن حياة الذمي مكافئة لحياة المسلم.
ويتفرع عن المساواة في حق البقاء مساواة أخرى هي الحق في التدين على النحو الذي يقتنع به أهل الديانات مع ما يتطلبه ذلك من ممارسة الشعائر الدينية وإحياء الأعياد والمناسبات ذات الصلة بالمعتقد.
وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم المثل لما أنزل نصارى نجران بمسجده وسمح لهم بأن يقيموا صلاتهم فيه فتوجهوا إلى جهة الشرق وصلوا (1).
وأعطى عمر بن الخطاب مثلا آخر لما رفض أن يصلي بكنيسة القيامة لما دخل فلسطين ظافرا وعلل ذلك الامتناع بخوفه من أن يطالب المسلمون بها،كما أنه زار الأماكن المسيحية مصحوبا بالبطريق صفرنيوس إشعارا بتبعيتها للنصارى، وقد أعجب مؤرخو الحضارة الإسلامية الغربيون بـمبلغ التسامح الذي أفاد منه اليهود والنصارى في البلاد الإسلامية.
وقد بلغ الأمر أن كان لليهود والنصارى قضاء خاص يفصل بينهم في قضاياهم الدينية والمدنية، بل إن الخلفاء المسلمين قد كانوا أكثر حرصا على حرية النصارى واليهود في تدبير شؤونهم من رهبان النصارى.
ويذكر آدم ميتز أن المأمون أراد أن يصدر كتابا لأهل الذمة يضمن لهم حرية الاعتقاد وحرية تسيير كنائسهم حتى يكون لكل فريق منهم مهما كانت عقيدتهم وعددهم حتى ولو كانوا عشرة أنفس أن يختاروا بطريقهم ويعترف لهم بذلك، ولكن رؤساء الكنائس هاجوا وأحدثوا شغبا فعدل المأمون عن إصدار الكتاب(1).
وقد تكونت من النصارى طبقة من التراجمة والأطباء فكان بختيشوع بن جبريل طبيب المتوكل.
وكان جرجيس بن بختيشوع مقربا من المنصور، وقد عرض عليه المنصور في مرض موته أن يسلم فأبى وقال: رضيت أن أكون مع آبائي في جنة أو نار، فضحك منه المنصور(1).
أما الدائرة الخاصة للمساواة فهي دائرة منظور فيها إلى وحدة الدين فيستفيد داخلها المشتركون في عقائد الإسلام بمساواة مؤسسة على الإيمان، على نحو ما تسنه الأمم كلها من استفادة مواطنيها من حقوق قد لا يستفيد منها الأجانب، كحقهم في الترشح في الوظائف السياسية المقررة لتوجهات البلاد، وكحقهم في التمثيل النيابي وفق ما يختاره تشريع دولة دون أخرى، وكحق أبنائهم في الاستفادة من منح خاصة للدراسة أو للعلاج أو غير ذلك.
وفي نطاق هذا المستوى من المساواة تتقابل حقوق وواجبات، وهذه الحقوق تنتظمها الكليات الخمس وكل كلية هي في حقيقتها وحدات جزئية تأتلف لتكون كلية معينة.
ومن تلك الحقوق حق الحياة والبقاء المعبر عنه بحفظ النفس، وحق الاستفادة من الخيرات العامة ومن وسائل الحياة، وهو المعبر عنه بحفظ المال. وحق الحياة على الوجه المناسب لآدمية الإنسان وهو المعبر عنه بحفظ العقل والدين. وحق الانتماء إلى جماعة بشرية وهو المكفول بحفظ النسل.
ففي هذا المستوى يستوي عامة المسلمين في الاستفادة من كل كلية على حدة وفق أحكام كثيرة تتضافر من أجل تحقيق تلك الكليات ودرء كل ما يخل بها أو يهددها.
وفي ما عدا حفظ الكليات فإن للإسلام في تمكين الأفراد من الحقوق ملحظا مهما يتلخص في وجود التماثل وفي انتفاء الخصوصيات والمؤهلات الخاصة التي يمكن أن تغيض إن هي لم تراع وتول حقها من العناية.
وفي هذا النطاق يعتبر الإسلام في المرأة مواهبها وتكوينها الفسيولوجي والعاطفي، كما يراعي في الرجل متانة بنائه الجسدي وعبالة عضلاته واستعداداته الجسدية التي تجعله قادرا على أعمال شاقة بأقل مما تبذله المرأة لو حاولت القيام بنفس العمل،وإذا كان العالم لا يتنكر لهذا التمايز حينما يتعلق الأمر بالألعاب الرياضية وبالمسابقات العالمية فيفصل فصلا حاسما بين مباريات الرجال والنساء، ولا يقابل الرجال مع النساء في الألعاب الثنائية كالملاكمة مثلا ولا يسمح بتكوين فريق مختلط من الرجال والنساء اعتبارا للفوارق الجسدية، فإن التنكر لهذا المبدأ في مجال العمل اليومي الجاد هو ولا شك تناقض صارخ ومكابرة واضحة.
3. عوارض المساواة
إذا كانت المساواة أصلا قارا فإن واقعية التشريع الإسلامي أنه يسجل حالات تعرض فيها دواع عديدة يمتنع فيها إجراء المساواة، إذا كانت المساواة نفسها في تلك الحالات لا تحقق العدل.
إن العناية بتحقيق المساواة ليس سبيلا إلى تحقيق العدل ووسيلة مؤدية إليه.
لكن التسوية لا تعني تحقق العدل في حالة ما لو تباينت الكفاءات والمهارات وسوّى بين النشيط والخامل في الأجر، وبين المتقن الخبير وبين الجاهل العاجز، فلو تم ذلك لأدى إلى ظلم الأكفاء والجادين ولو تحققت التسوية لصارت في هذه الحال مدخلا إلى الظلم والإجحاف.
لقد اصطلح المقاصديون على تسمية الحالات التي تلغى فيها المساواة بعوارض المساواة، وليس معنى ذلك أنها مؤقتة وإنما سميت عوارض بالنظر إلى مخالفتها للأصل الذي هو المساواة.
يجب التنبيه هنا إلى أن هذه العوارض لا يعم حكمها جميع حالات الإنسان، ولا تلغي المساواة في جميع الأوضاع، وإنما يقتصر الإلغاء على الجانب الذي استدعى الإلغاء، فإذا كان الجاهل مساويا للعالم فإن هذا لا يتناول إلا الأوضاع التي لها صلة بصفة العلم، كإسناد الوظائف المتوقفة عليه، وفي ما عدا ذلك فإن الجاهل يساوي العالم في باقي الحقوق كحقه في الحياة وفي الكرامة وفي الاستفادة من نتيجة عمله وفي ما سوى ذلك. وفي كل حالة تلغى المساواة بناء على توفر عارض خاص، فإن ملحظ الشرع يكون منوطا بتحقيق مصلحة اجتماعية تقتضي الإلغاء فلا مصلحة للمجتمع في تسوية من لم يتعلم الطب بالطبيب الماهر، وذلك بتمكينه من مزاولته تذرعا بالمساواة، ولا مصلحة في أن يتصدى للفتوى أو التوجيه أو التخطيط للمستقبل من لم يتأهل لذلك باكتسابه المعارف الضرورية. وإذا قال الإسلام بعدم مساواة الكافر للمسلم في تولي المناصب التي يشترط في القائم بها الإسلام، فإن ذلك جار على جادة المنطق والصواب، إذ يستحيل أن يكون الجاحد للشيء مؤتمنا عليه ومكلفا بحفظه وترقيته.
4. طبيعة عوارض المساواة
تتفرع العوارض المانعة من الأخذ بالمساواة إلى عوارض جبلية فطرية، وإلى عوارض شرعية، وأخرى اجتماعية وأخرى سياسية(1).
1. العوارض الجبلية.
تنبني هذه العوارض على ملاحظة ما يتميز به فرد عن فرد في الجانب الفسيولوجي والتكويني العام على اعتبار أن الاختلاف في الخلق يستتبعه اختلاف في التكاليف والتبعات وينشأ عنه توزيع موضوعي للمهام والأعمال الاجتماعية.
وبما أن التكوين الذكوري والأنثوي مختلف اختلافا بينا لاسبيل إلى إنكراه أو مدافعته فإن من الطبيعي أن يعتبر الإسلام كلا من الرجل والمرأة نوعين متمايزين لجنس واحد ولهما من عناصر التلاقي والتباين ما يجعلهما متكاملين متعاونين في مواجهة تكاليف الحياة وواجبات المحافظة على النوع تعاونا يخفف العبء عن كل واحد منهما ويفرغه إلى ما هو ملائم لقدراته واستعداداته.
وإذا كان بعض المتطرفين من دعاة الاتجاه الأنثوي لا يكف يعلن أن المرأة لم تخلق للإنجاب ولتربية الأولاد فإن بالإمكان أن نسائلهم هل الإنجاب والتربية وظائف أجنبية عن طبيعة المرأة وهل اختصاصها بالقدرة على إدرار اللبن لصالح الطفل أمر يزري بالمرأة ويضع من مكانتها الاجتماعية حتى يكون إبعادها عن الإنجاب والإرضاع ترقية لها؟
وهل يمكن أن يسير العالم بعيدا مع تدني نسبة المواليد تدنيا أصبحت معه أكثر الوظائف الاقتصادية والعمرانية مهددة بالتوقف؟

تميز المرأة بفقه خاص.
وتأسيسا على ملاحظة الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة، فقد خص الإسلام المرأة ببناء كامل من أحكام ليست قضية الإرث أو الولاية أو الطلاق أو الحضانة إلا جزءا منه، وهو ما يجعل الحكم المناسب للمرأة لا يكاد يغادر بابا من أبواب الفقه كلما كان الحكم الشرعي الأصل متجاوزا لقدرة المرأة أو جالبا لمشقة زائدة تعنتها ومن ذلك إعفاؤها من الصلاة حين حيضها أو نفاسها، وإعفاؤها من وجوب حضور الجمعة، ومن الاعتكاف في المسجد الجامع، ومن ذلك التخفيف عنها في أداء التراويح وإعفاؤها من الرمل في الطواف، والترخيص لها بالنفرة إلى منى ليلا وتمكينها من الرمي ولو قبل فجر يوم النحر، ومن ذلك عدم مطالبتها بالجهاد، ووجوب تقديمها على الرجل في افتكاك الأسرى اعتبارا لما يلحقها من الإهانة وهتك العرض إذا بقيت في الأسر، ومن ذلك أن الأسير المسلم إذا عاهد الكفار على أداء فدية إن هم أطلقوا سراحه، فإذا رجع إلى أهله ولم يجد مبلغ الفدية فإن بعض الفقهاء يلزمه بالرجوع إلى من كان بأيديهم من الكفار وفاء بالعهد، لكن المرأة إذا عجزت عن توفير الدية لا تعود إليهم درءا لما يمكن أن يصيبها بالأسر، ومن ذلك أيضا استثناء المرأة من تنفيذ أي معاهدة تنص على إرجاع من جاء مهاجرا من المسلمين إلى الكفار، على نحو ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رد رجالا التحقوا به مهاجرين من مكة تنفيذا لمقتضى صلح الحديبية، لكن الله أنزل قرآنا استثنى به المرأة من الإرجاع إلى مكة فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المومنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مومنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن.(الممتحنة 10).
ومن الأحكام الخاصة بالمرأة الترخيص لها بلبس الذهب والحرير، وتحريم ذلك على الرجال حتى إذا كان لها فراش حرير لم ينم عليه الرجل إلا تبعا لها، ومن أحكامها عدم إلزامها بالنفقة على بيت الزوجية إذ الإلزام يحتم عليها طلب الرزق حتى ولو عسر أو بعدت مصادره، ومن أحكامها استفادتها من حق الحضانة مراعاة لما قامت به من واجب التربية، إلى غير ذلك من الأحكام التي لها صلة وثيقة بتكوين المرأة وبطبيعتها، وهي أحكام كثيرة دفعت بالبعض إلى وضع كتب ودراسات عن فقه المرأة، ويمكن الرجوع من ذلك إلى بحث كرامة المرأة من خلال خصوصيتها التشريعية، مصطفى بن حمزة(1). وكتاب المفصل في أحكام المرأة ، عبد الكريم زيدان في 10 مجلدات عن مؤسسة الرسالة.
ويلحق معنى المانع الجبلي من مساواة اعتبار المؤهلات الذهنية والكفاءات العلمية المكتسبة بالدراسة والتجربة، وهي صفات تقتضي إيلاء من توفرت فيه من الحقوق ما يحفزه على العطاء والبذل وعلى أن يسخر مواهبه لفائدة المجموع. ولا زلنا نرى لدى الغربيين اهتمامهم بالنبغاء والعلماء ومنحهم إياهم جوائز ومكافاءات مادية ومعنوية وأجورا مغرية بل إن أكثر دولهم تخصص للشعراء والأدباء والمخترعين والمكتشفين مقابر لا يدفن فيها غيرهم، ويعتبر الدفن في تلك المقابر حظوة ومنزلة كما أن نقل البعض إليها بعد وفاته يعتبر تكريما وردا للاعتبار. وليس ببعيد عن الذهن ما قاله الرئيس الفرنسي جسكار لما استشير في شأن الفيلسوف الفرنسي التوسير لما قتل زوجته فقال الرئيس: عار على فرنسا أن تعتقل فكرها ، فأمر بوضعه في مصحة للأمراض العقلية.
ومن صور المانع الكسبي الملحق بالمانع الجبلي والمنزل منزلته منع الشارع الجاهل بالطب من تعاطي العلاج صونا لحياة الناس ومنع غير المؤهل علميا من إفتاء الناس صونا لدينهم. وقد اعتبر الفقهاء متعاطي الطب غير المؤهل والمفتي الجاهل متجنيين ومعتديين، عليهما الضمان فيما أتلفاه ولا يعذر أحدهما بالجهل.
2. الموانع الشرعية للمساواة.
إن الإسلام له تصوره الخاص لكل قضايا الإنسان ولوظائف كل من الرجل والمرأة من أجل إبقاء المرأة المسلمة منسجمة ومتكافلة.
وقد اقتضى هذا أن يكون للشرع اعتبار للحالات التي لا يتكافأ فيها الرجل والمرأة، ومن أمثلة هذا منع الإسلام المرأة من تعديد الأزواج في مقابل إباحة تعديد الزوجات للرجال، وليس ذلك إلا لما تؤدي إليه المساواة في هذه الحالة من اختلاط الأنساب، وهو أمر يعتبره الإسلام إخلالا بتماسك المجتمع و بترابط الأسر، لأن ذلك الترابط هو الذي يدفع الأب إلى أن يضحي تضحيات جسيمة من أجل أبنائه متى تأكد أنهم من صلبه وأنهم يشكلون استمرارا له، ومن ثم كان تشككه في انتسابهم إليه مؤديا حتما إلى فتور في تلك التضحية ما دام أولئك الأطفال أجانب عنه.
3. الموانع الاجتماعية للمساواة.
لقد نظر الشرع إلى كل الفوارق الذهنية والكفاءات الفكرية والإمكانات الجسدية التي تفرض أن يـمنح كل فرد من المكفاءات والحظوظ بقدر ما يجيده ويتقنه وبقدر ما يقدمه لصالح المجتمع، ومن أمثلة الحالات التي يتمايز فيها المسلمون في الفضل شفوف درجة الصحابة وامتيازهم على غيرهم من المومني،ن حتى كان ما يبذله أحد الناس من سواهم من عطاء كبير لا يبلغ مد أحد من الصحابة ولا نصيفه، وداخل دائرة الصحابة يتقدم الخلفاء الأربعة، ونساء بيت النبوة، وعلى رأسهن خديجة وفاطمة وابناها الحسن والحسين، يليهم في الفضل باقي العشرة المبشرين بالجنة، ثم السابقون بإيمان، وأهل بدر وأصحاب بيعة الرضوان، ومن أسلم قبل الفتح، ثم عموم الصحابة.
وهذه درجات متفاوتة عائدة إلى فضل السبق في الإسلام، وإلى الجهاد في سبيل نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظير هذا التمييز حاليا ما تلجأ إليه الدول من منح امتيازات لمن كانوا سببا في تحرير الوطن، ومن أمثلة ما تتطلبه الاعتبارات الاجتماعية ارتفاع درجة أهل العلم على عامة المومنين تشجيعا على طلب العلم وتحصيله.
4. أما الموانع السياسية للمساواة.
فتلك غير قارة فيندرج في مفهوم السياسة الشرعية كل الأحكام التي تساعد على توفير الأمن وتجنب التوتر وحقن الدماء، وأبرز أمثلة هذا النوع تصريح الرسول صلى الله عليه وسلم بكون الإمامة في قريش، وهو حكم ينظر إلى أن قريشا كانت في الجاهلية تحظى باحترام القبائل العربية بحكم كونها حامية البيت وخادمته فكان الناس يسالمونها بينما يتحاربون فيما بينهم يقول الله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم. (العنكبوت67).
وقد كانت قريش بعد هذا من أكبر القبائل وأكثرها عددا، فلما كانت الإمامة فيها كان ذلك أدعى إلى اجتناب الحروب،ومن صور الأوضاع السياسية التي ألغت المساواة قول الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة من دخل داره فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وهذا تمييز موقت رافق رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في إعلان منع التجول بعد فتح مكة درءا للفوضى وحقنا للدماء.
ومن أمثلتها كذلك عدم إقامة الحدود على المقيمين على الثغور، تخوفا من التحاقهم بدار الكفر فرارا من إقامة الحد عليهم.
هذه إلمامة عجلى بموضوع المساواة قصدت منها إلى دعوة المتحدثين عن المساواة إلى شيء من التروي والأناة وإلى بحث أصالة هذا المبدإ وتطبيقاته الفعلية بحثا عميقا. يضيء جوانبه ويكشف حقيقته، حتى لا يكون نشدان المساواة سبيلا إلى ركوب الوهم أو إلى الإجهاز على القيم والأحكام التي أصلها الإسلام باعتبارها نابعة عن الوحي الذي أنزله الحق الذي هو أعلم بعباده وبما يصلح شأنهم، في عاجل حياتهم وآجلها.
إعداد: أ. مصطفى بن حمزة
39f60d03034a6812c35db2eeaa1b53d1

الاخبار العاجلة